كلّ ما يحصل الآن كان متوقَّعاً. انهيار سعر صرف الليرة، تسارع التضخّم، ارتفاع معدَّلَي البطالة والفقر: هذا كان متوقَّعاً منذ بدايات الانتفاضة. حتّى استعادة السلطة السياسيّة لبعضٍ مِن تماسكها بعد أن بَدَتْ موشكةً على الانحلال، وعودة زعماء الطوائف لتصدُّر المشهد السياسي، وبسْط حزب الله المزيد مِن سيطرته على الدولة، واشتداد القمع، واللجوء إلى القتل والتعذيب... حتّى ذلك كان كلّه متوقَّعاً، أقلّه منذ الشهر الثالث للانتفاضة.
غير أنّ المعرفةَ التي انطوى عليها التوقُّعُ كانت نظريّةً فحسب، أي مجرّدةً وذات أثرٍ ضئيل على المُمارسة والفعل؛ وفي ذلك شيءٌ مِن التشابه مع عدم أخذِ كُرَويَّةِ الأرض في الحسبان عند التنقُّل مشياً أو بالسيّارة:
كنتُ أعرف، نظريّاً، أنّ التغيير، إن كان ممكناً، لن يحصل إلّا في المستقبل البعيد نسبيّاً؛ لكنّني كنتُ مع ذلك مؤمناً بأنّ النصرَ وشيكٌ، بأنّه قد يتحقَّق في أيّ لحظة، وبأنّني أكاد أستطيع لمسَ باب الفردوس بيدِي.
بالطبع كان إيماناً يشوبه الكثيرُ مِن الشكّ (فحتّى مَن آمَن بالله يشكّ أحياناً بوجوده)؛ بَيْد أنّه كان مِن القوّة بحيث نجح، على العموم، في إبقاء المعرفة العقلانيّة في الحيِّز النظري البحت، مانعاً إياها مِن التمدُّد إلى حيِّز المُمارسة، ما جعل ممْكِناً هذا الفعلَ البسيط: النزول إلى الشارع شبه يوميّاً.
إنّ مواظبةَ أعدادٍ كبيرة مِن الناس على النزول إلى الشوارع ما كانت ممكنةً لولا الوهم بأنّ النزول هذا سيُحقِّق معجزةً:
الخروجُ مِن التسلسل الزمني الرتيب لخلق شيءٍ جديدٍ، في الآن والهُنا، يكون على قطيعةٍ تامّة مع الماضي.
الغوصُ في لحظة النشوة الجمعيّة باعتبارها بدايةً مطلقةً، ولادةَ كائنٍ سياسيٍّ طاهرٍ مِن العدم، لم يمسّه البتّة دنسُ السياسةِ اللبنانيّة.
كان ذلك وهماً ضروريّاً لانطلاق الانتفاضة. ففي ظلّ فقر الحياة السياسيّة اللبنانيّة وانسداد آفاقها، وتحت تهديد الانهيار الاقتصادي الوشيك، كان ثمّة حاجة مُلحَّةٌ للإيمان بحلٍّ سحريٍّ سريع، وما كانت الناس لتقبل بفكرة الانخراط بسيرورةٍ تراكميّةٍ طويلةٍ مِن العمل والنضال السياسيَّيْن. تلك الفكرة كانت ستؤدّي حينذاك إلى الشَّلل واليأس. لذا، كان علينا تصديق أنّنا نخترع السياسة مِن جديد.
أمّا الآن، فقد عمَّ اليأس. لكن ليس لأنّ الوهم قد زال، بل لأنّه بَقِيَ. حصل ما كان متوقَّعاً منذ البداية، ولم يعد ممكناً إنكاره ولا حصره في حيِّز المعرفة النظريّة، إذ بات واقعاً مُعاشاً لن يتبدَّل، على الأرجح، في المستقبل القريب. لحق بنا زمنُ السياسة اللبنانيّة الرماديّ والرتيب، بعدما كنّا قد ظنَنَّا أنّنا أفْنَيْناه.
غير أنّ اليأسَ، والإحساسَ بالعجز، لا ينبعان مِن سوداويّة الحاضر فقط، وإنّما أيضاً وخصوصاً مِن ذاك الوَهْمِ القائل بأنّ التغيير لا يحصل إلّا سريعاً، في لحظةٍ واحدةٍ ودفعةً واحدة.
في الظرف الحالي، لم يعد هذا الوهم محفِّزاً للفعل، بل أصبح مُعيقاً له: مُعيقاً لانخراط المُمارسة السياسيّة في الزمن وتقلُّباته.
اليأسُ شعورٌ وثيقُ الصلةِ بتصوُّرٍ زمنيّ مُعيّن، وهو أنّ مرورَ الزمن ليس سوى تكرارٍ للشيء ذاته، وأنّ هذا التكرارَ حتميٌّ، وأنّ الفعلَ، إذا لم يُفجِّر توّاً الزمنَ ومُحتواه المُتكرِّر، هو بالتالي فعلٌ عبثي. اليأسُ شعورٌ ينبذ فكرتَي السيرورة والتراكم. اليأس شعورٌ يُنْكِر جوهرَ التاريخ.