فرحتُ لرؤيته مَوتوراً.
سمعتُه يتلعثم، وركّزتُ على لسانه الذي خانه في لفظ الكلام، وانتظرتُ صرخته: اسمعي ولي!
سُررت، وقد هرمنا جميعنا لهذه اللحظة.
لا أذكر أنّي رأيتُ الرجل، ولو مرّةً واحدة، مُهتزّاً، كما كان أمس.
بهيئة السمكة التي خرجت من مائها، رفض نبيه برّي تلاوة الأصوات الملغاة.
كيف يقرأها جهاراً وقد كان شريكاً أساساً في استلاب العدالة المُرادة؟
وبهيئة السمكة التي عادت إلى الماء، أنقذه الصدى:
نبيه برّي، نبيه برّي، نبيه برّي، نبيه…
نبيه برّي، إلى ما يشاءُ الله. وأنا، فرحتُ لرؤيته مَوتوراً، فقط.
اندلقت التحليلات الاستباقيّة لهذا النهار منذ عشيّة الانتخابات. الكل يحلّل، والخُلاصة المشتركة: ما كان برّي ليدعو لولا تأمينه سلَفاً الأكثرية من الدورة الأولى، وهكذا كان. ثم صارت التحليلات تقول: ايه، بس عالحفّة! ثم نُشرَ جدول أصوات برّي منذ الطائف: 105، 122، 124، 90، 90، 98، 65: الحفّة. ثم كان الاحتفال برمزيّة تناقص الأرقام.
مشكلتان في هذا الطرح:
- أنّه يعتبر أنّ الأرقام تمشي بمنطق الـ suite arithmétique، يعني أنّ الرقم المقبل سيكون بالضرورة أنقص، تحت الحفّة، وهذا ما تنقضه علوم السياسة، وتنقضه علوم التسويات.
- أنّ الطرحَ يعتبر ضمنيّاً أنّ برّي سيخوض دورةً مقبلةً، عام 2026 مثلاً، وهذا ما تنقضه علوم الحياة، أو الدين، أو ببساطة مزاج برّي نفسه.
فقد تكون الأعمار بيدُ الله، وقد يُكابر برّي عليه.
فهو النبي، وللأنبياء معجمهم الخاص في مخاطبة الآلهة. قد تكون الأعمار بيد الله، أو قد يضجر برّي من دور الناظر في مدرسة المُشاغبين بعد أربعة أعوام، وأُرجّح، من جهتي، أن تكون هذه الدورة الدورة النيابية الأخيرة لدولة الرئيس.
وفيما نحتفل هنا، على وسائل التواصل، بأنّ الرئيس كان على حافّة النجاح في الدورة النيابية 2022، سيكتب التاريخ على ضريحه، بعد عمرٍ طويل:
نبيه برّي
الرئيس الذي لم يُسقطه أحد
وهنا سؤال الجدوى، أو سؤال المُراكمة كما يحلو للرِفاق تسميته.
فلو وقفنا على طرفَي النقاش الذي ينظر إلى «الصورة الواسعة»، لرأينا أنّ الطرف الأوّل يرى أنّ برّي- الطائف انتهى أمس، فيما يرى الطرف الثاني أنّ برّي- الطائف بدأ أمس، في أن صار أسطورةً: أسطورة تحقيق أضخم فوزٍ الجمهورية الثانية، إذ تفرّد بكل ولايات المجلس النيابي ما بين الـ1992 والـ2022.
هنا نخسر سؤال الجدوى والمراكمة، عندما يضع الخصم مخطّطه في إطارٍ زمني لا يتطابق مع الإطار الزمني الذي نعوّل عليه لتحقيق هدف ما بعد المراكمة.
مثلٌ معكوس: سؤال الجدوى والمراكمة في بناء السيرورة الثوريّة في لبنان، فهي بدأت بالوحي من الثورات العربية (2011)، حيث عرفَ لبنان تظاهرات إسقاط النظام الطائفي، ثم الحراك المدني (2015)، ثم انتفاضة 17 تشرين (2019): تظاهرات، فحراك، فانتفاضة. هنا المراكمة واضحة، وسؤال الجدوى لصالحنا، والإجابة تتطلّب جهداً طويلاً وإرادة متفائلة.
أمّا في حالة برّي- الرَجل، فإنّه يستعين بِلا شكّ بمسطرةٍ أخرى لقياس الزمن. لا يقيس زمنه كرئيسٍ للمجلس، كما انزلقت تحليلات أمس، بل يقيسه كرئيس العصابة (مع ألـ التعريف)، كمؤسّسٍ ومدير للشبكة: شبكة العلاقات الزبائنية الرسميّة.
ركّزَتْ معركة أمس على كسر «برّي- الشخص»، وحصر إعلامُ السلطة المعركةَ في هذا السياق، من دون أي إشارة لـ«برّي- الشبكة». فنبيه برّي ليس فرداً، بل مجموعة أفراد، للدقّة، مجموعة وظائف إدارية تربط ما بين الدولة والدولة العميقة.
فـ«برّي- النائب» لا يستمدّ شرعيّته من عدد أصواته التفضيلية، كما أنّ «برّي- رئيس المجلس» لا يستمد شرعيّته من الدمى الـ128 التي تقترع له تأييداً أو رفضاً.
يستمدّ برّي الشرعيّة من شبكته التي نَحتها بتأنٍّ وتَروٍّ وتُؤَّدة.
يستمدّها من شبكات التجارة الإفريقية، من البزنس التي يديرها، من علاقاته بالقطاع المصرفي، من علاقاته الدبلوماسيّة بين السفارتَين الإيرانية والأميركية وما بينهما، ومن دوره كدينامو يلعب على جميع تناقضات الأحزاب اللبنانية، فيُخاصمها طورٍ ويُصادقها أطواراً.
هذا على المستوى الفوقي للعلاقات.
على الأرض،
يستمدّ برّي شرعيّته من الوظائف العامة التي قدّمها ويقدّمها، ومن المستشفيات الحكومية التي مُهِرَت باسمه، ومن المولّدات الكهربائيّة التي يُديرها زلمه. من أبو خشبة، يستمد نبيه برّي شرعيته من أبو خشبة كنهجٍ مافيويٍّ مُمَأسس، ومن جهاز حرس المجلس وآلية عمله. يستمدّ الشرعية من شبكة شقيقته هنادي برّي، المديرة العامة للتعليم المهني والتقني، ومن أزلامه الذي يديرون مفاصل الجامعة اللبنانية. وبالتأكيد يستمدّ شرعيّته من الـ«51٪»، وأخيراً وليس آخراً، من موقعه كوريثٍ سياسيّ للإمام موسى الصدر.
من هذه الأماكن جميعها يستمدّ نبيه برّي شرعيّته، لا من صندوق الاقتراع الزجاجيّ في قاعة المجلس النيابي.
فالشخص الذي يمسك هذه المفاتيح جميعها، لا يمكن إلّا أن يكون رئيساً للمجلس النيابي. وليس العكس.
بمعنى آخر: رئيس المجلس النيابي = ناظم شؤون شبكة العلاقات الزبائنية. وكل محاولة تحاول ضرب الطرف الأوّل بلا مسٍّ بالطرف الثاني، هي أشبه بصَيد العصافير بسنّارة السمك، أو لعب كرة القدم في ملعب كرة السلّة.
وعليه، حتّى ولو غاب برّي عن دورة الـ2026، فإنّه سيبقى موجوداً، لا كرجل، بل كشبكة. شبكةٌ لم يمْسَسْها أحدٌ أمس، ولا في الانتخابات، ولا قبل. حتّى أنّ أحداً لم يجرؤ على التمرّد عليها، اللهم إلّا مرّةً واحدة.
كان ذلك في عام 2019، يومٌ «عادي» من شهر تشرين، في مدينة صور الجنوبية. لم يكفِهم صُراخ «الشعب يريد إسقاط النظام»، مرّوا بجانب صورة النبيه على مدخل الضيعة، واختاروا تمزيقها. داس الأبناء المطرودون صورة أبيهم، طَوطم القبيلة. كذا كان أوّل تمرّد علني وملموس.
أمّا رمزيّاً، فقد يسقط برّي في المجلس النيابي بقدر ما يشاء، طالما أنّ الهجمة عليه تتّخذ هذا الشكل الصوَري، أي الشكل الذي حدّده إعلام السلطة، منذ أنّ فرز مارسيل غانم المجلس النيابي وفق قسمة «رح تصوتوا مع أو ضد؟».
لكن فعلياً، لا، ولم، ولن يسقط برّي داخل المجلس النيابي، داخل صالون بيته.
يبقى أنّ سؤال الجدوى الذي تمكّن بري من الالتفاف عليه، قد يعود ويلتفّ عليه، فقط يومَ تُنقَل عقدة الحبل من عنق «برّي- الرجل» إلى عنق «برّي- الشبكة».