فكرة ثورة تشرين
فادي بردويل

17 تشرين بعد عام ▪︎ أبعد من شبح التنظيم

22 تشرين الأول 2020

في الذكرى الأولى لبدء الخروج الكبير على النظام، استعيدت مسائل لازمت الثورة منذ أسابيعها الأولى.

فأعيد التذكير بضرورة التنظيم الحزبي واعتماد استراتيجية تضع الوصول الى السلطة نصب أعينها والشروع بالترجمة «السياسية» لتحرّكات الشارع. كما استعيد نقد تحوّل الممارسة السياسيّة المعارضة إلى استعراض مسرحي آنيّ مغرق بالرموز. فإضاءة «مشعل ثوري» يجذب كاميرات التلفونات نحوه بعد عدّ عكسي جماعي أطلقته مقدّمة البرنامج من علوّ منصّتها، محوّلة المتظاهرين من صنّاع الحدث المفترضين إلى جمهور متفرجّ- مشارك، لا يختلف كثيراً عن إخراج أي حدث إعلامي.

لا جديد في محتوى تلك المقولات التي لازمت الثورة كظلّها. إلّا أن توقيت استعادتها في الذكرى الأولى يحمّلها معاني محدّدة ترتبط باختلاف المواقع التي تصدر منها. فقد يتبنى ذلك مشكّك ساخر يعيد، بحركة نرجسية، طمأنة نفسه لصحّة قرارها بعدم تعكير طمأنينتها منذ سنة. وقد يصدر هذا الكلام من موقع نضالي ثوري، يستعيد الماضي من أجل القيام بجردة حساب ونقد ذاتي، يؤسسان لاستئناف النضال في المستقبل. كما يمكن أن يتبناه ثائر محبط، انسحب من الشارع إلى الحياة الخاصّة والمراقبة عن بعد. الأوّل يريد من الذكرى التشديد على صوابية قرار عدم الانخراط في الماضي. الثاني يجعلها محطّة نحو المستقبل. بينما يشدّد الثالث على الحاضر كقطيعة مع الماضي القريب.


بغضّ النظر عن المواقف من تلك المقولات والمواقع المختلفة التي قد تنبع منها، فإنهّا تشير إلى مسائل أساسيّة أبعد من التنظيم وهي النزاع على تعريف السياسة، وكيفيّة ممارستها، وأماكن صنعها، وأهدافها؛ وأزمة التمثيل السياسي. وغالباً ما يغيب البعد العالمي لتلك المسائل التي تتخطّى حدود الجمهوريّة اللبنانيّة، عند تناولها واستسهال نقد 17 تشرين من أبوابها. فكما غرقت الثورة بلبنانيّتها، يريد النقد الموجّه إليها أن يقنعنا بأن «الفشل التنظيمي» هو شأن داخلي بحت مرتبط بالإجمال بإرادة المناضلين والمناضلات وشخصيّات الأفراد. فتكفي الدعوة إلى استنهاض الهمم وتنفيس الأنا المنتفخة لأي مشروع قيادي بين الناشطين والإقلاع عن استراتيجيّات عمل المنظمّات غير الحكوميّة لكي تلوح السياسية الثوريّة الحقيقيّة والفعالة في الأفق.

لكنّ المسألة ليست بهذه السهولة. وهي تتخطّى إرساء ممارسات ديموقراطيّة داخل الأحزاب، على خلاف الصيغ التنظيميّة الهرميّة والحديديّة التي تعدّت تاريخ صلاحيّتها. فمسألة ضمان عدم تفرّد زعيم أوحد أو مجموعة صغيرة بالقرار، على أهميّتها، ليست التحدّي الوحيد. فالتمثيل السياسي اليوم يواجه إعادة صياغة مفاهيم السياسة والسلطة التي توسّعت معانيهما في العقود الأخيرة إلى أقصى الحدود. باختصار، اليوم كلّ شيء سياسي (الاقتصاد، الجندر، الاجتماع، البيئة، الثقافة، العرق، الجسد، الجنس، العمل، العناية، الحضانة، اللجوء، إلخ). السلطة، إثر ذلك، في كلّ مكان. كلّ ذلك يجعل من عمليّة التمثيل السياسي ووضع البرامج وتحديد أساليب العمل ومطارحه، وبلورة معايير التحرّر من السلطة، أكثر تعقيداً من أي زمن مضى كان التناقض الرئيسي فيه محدّداً، والنظريّة الثوريّة موجودة، والصيغ التنظيمية متداولة.

فالسياسة اليوم لم تعد ممثّلةً بثنائيّات المصلحة الوطنيّة أو الطبقيّة، والولاءات الطائفيّة وشبكاتها الزبائنية التقليديّة، على أهميّتها وراهنيّتها، وهي التي أرّقت أجيالاً من المناضلين. فلا يمكن اعتبار البطركيّة والعنصريّة واضطهاد المثليّين والمثليّات وتدمير البيئة بنوداً ثانويّة توضع في غرفة الانتظار ريثما يتمّ القضاء على الطائفيّة والفساد والاستغلال الرأسمالي. ويجعل توسيع معاني السياسة وتعدّد معايير التحرّر من مهمّة الإنشاء السياسي الساعية إلى بلورة هيمنة مضادّة تأخذ اختلافات المجتمع اللبناني وانقساماته على محمل الجدّ، عمليّةً أبعد بكثير من نقد إجرام السلطة الحاكمة. فالصعوبة التي طالما واجهت المناضلين والمناضلات كانت الانتقال من الشقّ السلبي للمعادلة السياسية، أي فضخ آليّات الاستغلال والاضطهاد للنظام، إلى شقّها الإيجابي وهو إنشاء صلات مع الناس في أحيائها وأماكن عملها، لكي تكسب ثقتها وتستميلها إلى مشروعها التغييري.


تشكلّ جريمة المرفأ الشاملة حدّا ثانياً للمقولات المستعادة. فمن الصعب إحياء ذكرى 17 تشرين دون العودة إلى تفجير العاصمة. فالتفجير ليس فقط عنصراً كمّياً يضاف إلى سياسات النظام وتفشّي الوباء العالمي. حدث كارثي بحجم تدمير العاصمة وتهجير أهلها لا بدّ أن يطرح أسئلة على كيفيّة تذكّر17 تشرين. فالانفجار شكّل قطيعة في تاريخ المدينة وتروما جماعيّة لسكّانها. هو في آن معاً حدثاً دون السياسة، بما أنّه طال كل من كان متواجداً في محيطه دون أن يفرّق بين أركان النظام والثوّار، بين مواطنين ومقيمين؛ ودون أن يهدف إلى تعزيز مصالح النظام. كما هو حدث فوق السياسة، بما هي صراع مصالح، يُبرِز بوضوح شرّ هذا النظام والخطر الوجودي الذي يشكلّه على الحياة. فقطيعة/ تروما الانفجار تُظهر في الوقت نفسه حدود الممارسة السياسيّة الثوريّة والمسائل التنظيميّة المتعلّقة بها وضرورتها الحيويّة.

في أعقاب الانفجار، سعى بعضٌ ممّن أتمّ عمليّة الانسلاخ الشعوري عن النظام بعد 17 تشرين، التي هي أشبه بعمليّة إعادة تشكيل للذات خارج إطار لغاتها السياسيّة وبنى مشاعرها وجغرافيّة تنقّلاتها وعلاقاتها الاجتماعيّة، إلى استبدال الخروج على النظام بالخروج من البلاد. فالثورة التي حفرت عميقاً في نفوس صنّاعها وأجسادهم، لم تواجَه فقط بالعصي والقنابل المسيلة للدموع والرصاص وبسياسات الاستنزاف الماليّة القاتلة، بل شهدت أيضاً زلزالاً يفوق قدرات الروح الاستيعابيّة والكلمات المتاحة لصياغة المعاني وسياسات مجابهة النظام.


فتحت 17 تشرين كوّة كبيرة في جدار النظام. أظهرت، كما تظهر الثورات، بأنّ عالمًا آخر ممكن. أربك فائض الديموقراطيّة الذي شكلّته بانتزاع حقّ الكلام واسترجاع ملكيّة المساحات العامّة وإنشاء نقابات بديلة وتشكيل مجموعات عمل كلّ أركان النظام. فسعوا كلّ على طريقته إلى استيعاب فائض الحريّة إمّا من خلال ادّعاء أبوّة الثورة ومحاولة اختراقها والاستلاء عليها (جعجع) أو من خلال الاستماتة بنفيها من حيّز السياسة الشرعيّة من خلال التخوين الدائم (نصر الله). لكن مهما اختلفت استراتيجيات مواجهتهم للمنتفضين والمنتفضات، اتّحدوا جميعاً على حشد كلّ طاقاتهم لإنكار أنّهم جزء من كلّن يعني كلّن. وكلّما أصرّوا على الإنكار وعلى التمايز عن زملائهم في السلطة، كلّما أظهرت مقاومتُهم النفسيّة الواحدة للشعار وحدتَهم. لكنّ وحدتهم لا توحّد أوتوماتيكيًّا من يواجههم خارج إطار لحظات الالتحام المباشر مع الأجهزة الأمنيّة والشبّيحة.

ويبقى السؤال الأصعب عن كيفية تأسيس سياسة هيمنة مضادّة تكفل التضامن ضمن الاختلاف، وعلى تماس مباشر مع الناس. وهذا ما هو أبعد من الاستحضار الدائم لشبح التنظيم، وإن شمله.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد