لم أكن أعرف لماذا عدتُ آخر مرّة. أبديهيّ كان قرار السفر لقضاء أربعة أيّام معدودة في مدينة لم يرسُ حصى بناياتها المتفجّرة المتطاير على الأرض بعد؟ ولم تلملم شوارعها دماء وأشلاء وآلام المتساكنين بعد؟ ولم يتوقّف مرفأها عن ذرف الدخان الأسود بعد؟ أبديهي أن أصرّ على العودة إلى مدينة لم تعد تحرّك فيّ غير إحساس الخسارة والفقدان، مدينة لم نعد نجد في شوارعها ما يشبهنا؟ ربّما أصبحت هكذا تماماً: تشبهنا، ويشبه دمارُها يأسَنا (أم عساه هو السبب، لم أعد أميّز السبب من النتيجة). لكنّي عدت مع هذا: لأغلق هذا الفصل من حياتي وأمضي قدماً؛ ربّما لهذا عدت. أو لألملم شيئاً من أشيائي التي لا حاجة لي في الحقيقة لها. لكن هكذا كنت أجيب من يسألني عن سبب هذه الزيارة اللاوقتية: «يجب أن أصادق شهادتي الجامعية/ كل ثيابي الشتوية هناك/ أريد أن أزور بيتي آخر مرّة».
اللاوقت أصبح ما يعرِّف عن حياتنا اليومية بهذه المدينة الملعونة، والملعونون نحن بها. وأصبحت أوقاتنا تُحدد بكوارث باتت محور محادثاتنا: أين كنت وقت الانفجار؟ كم ساعة بقي المرفأ يحترق بدواليبه وزيوته وصناديق إعاناته؟ أنا طلعت من الجميزة على الساعة 6 إلا خمسة. هذا اللاوقت هو تحديداً ما زاد ارتباطي بالمدينة. لم يعد وقتنا محدداً بأيام الأسبوع أو أشهر السنة، وخُلق «وقتنا» وخُلقت تجارب جماعية بدّدت في الكثير من الأحيان الشعور باللاإنتماء إلى بلد التناقضات الاجتماعية والزبائنية الطائفية غير المفهومة.
فجأةً صرت أرتاد ساحات الثورة لا لأني أؤمن تماماً بإمكانية «نجاحها»، بل لأنه لم يكن في وسعي ألا أتبنى قضايا الشارع وأكون مع ناس يشبهونني- ليس بالوطن او الهوية، فهذان لم يعودا يعنيان شيئاً أمام الغضب ضد بطش السلطة ورفض الفساد والظلم. لذلك كنت أجيب سائقي السرفيس أو بيّاعي العرانيس الذين ينتبهون للقاف في نطقي إنّي تونسية وإني في الشارع لأنه ليس هناك من مجال آخر للتواجد. فكّرت لسذاجتي أنّ جوابي ذاك مقنع وأنّ لا سبب لإخفاء الحقيقة. لكن سرعان ما تغيّرت إجاباتي بعد كل استنكار أو مساءلة طويلة عن سبب تواجدي أو تزايد أخبار خطر مشاركة غير المواطنين في التظاهرات. صرت حينها أجيب أني درزية من حاصبيا أو راس المتن، لأبرّر استعمالي للقاف أو أنّ أمي لبنانية وأنا في الساحة لأدافع عن حق اللبنانيات في إعطاء الجنسية لأولادهنّ مثلي. كذبات بيضاء كانت تقيني اتهامات العمالة أو إسقاط شرعية وجودي في الساحة، والذي أصبح بدوره هو ما يعرّف هويتي وطبيعة علاقتي مع المدينة. حتى أنّني لا أتذكر ما كانت ديناميكية حياتي في المدينة طوال السنوات الثلاث التي سبقت الثورة. بالكاد أذكر الصداقات العابرة والمشاوير والمناطق التي زرتها. فجأة، تحدّد كل شيء وفق أوقات الثورة وحول أحداث الساحة ومع ناس تعرّفت إليهم في الشارع ولم يعد ما قبل تلك الفترة يحتل أيّ حيّز.
ثمّ أتى الانفجار وأعاد ترتيب عقارب الساعة حسب توقيته، ووسّع نطاق الغضب والمعاناة وأنهى زمناً وأعلن آخر. هكذا نحن الآن صرنا: أين كنت وقت الانفجار؟ كم ساعة بقي المرفأ يحترق بدواليبه وزيوته وصناديق إعاناته؟ انا طلعت من الجميزة على الساعة ٦ الا خمسة.
لم أكن أعرف لماذا عدت آخر مرّة، أو المرّة التي سبقتها، أو لماذا أعود كلّ مرّة لأُطرَد، تماماً كما يُطرَد الجميع؛ قمع بوليسي، حساسيات طائفية وانفجارات، ثم حرائق تلو الحرائق، وروح المدينة التي تكاد لا تُسترجع فتموت، وآخر قبلات الحبيبة على باب المطار.
لم أعد أعرف ما جدوى تشبثّي بتلك المدينة التي بات كلّ ما أفعله فيها مؤخّرًا هو البكاء، استنشاق الغاز المسيل، دخان الحرائق، وتوديع الأصحاب. أظنّ أنّنا ألفنا الآن مناظر الخراب وشعور خسارة كلّ ما عهدنا المدينة عليه: مقهانا المُفضّل، بيرة على الدرج الملوّن، رقصة ميترو المدينة، سهرات رأس السنة، أو مجرّد شارع خالٍ من آثار الخراب.
أصل الآن إلى تونس بعد غياب الكثير من الأشهر التي لا أحسن الغياب خلالها عن مدينتي الملعونة. أأبكي الآن فقدان ذلك البلد ام أعزّي نفسي بالبلد الثاني المتبقّي؟