تجميد البرلمان، إقالة رئيس الحكومة، حظر تنقل، جيش في الشوارع، اجتماع أمني، بيانات رئاسية…
لا يحتاج المرء إلى الكثير من التحليلات لكي يفهم ما جرى كـ«انقلاب».
ربّما كان ما جرى دستورياً، بحسب تفسير الرئيس قيس سعيّد للفصل 80 من الدستور. لكنّ الانقلابات غالبًا ما تنطلق من قراءةٍ ما للدستور، خاصةً عندما يعتبر الحكّام الجدد أنّ هناك «خطرًا وشيكًا» يهدّد البلاد.
ربّما كان ما جرى شعبياً، بحسب بعض ردود الفعل في الشارع التونسي. لكنّ الانقلابات غالبًا ما تلقى بعضًا من الدعم الشعبي، خصوصاً في بداياتها الواعدة.
ربّما كان ما جرى اضطرارياً، في وجه الأزمة السياسية والاقتصادية والصحية. لكنّ الانقلابات غالبًا ما تخرج من وضع مأزوم، وتبرّر نفسها كردّ فعل مؤقت لمواجهة الأزمة.
ربّما، ولكنّ تاريخنا في المنطقة منذ منتصف القرن الفائت هو تاريخ انقلابات حملت أعذاراً مختلفة، دستورية وشعبية واضطرارية…
ربّما، ولكنّنا لسنا محكومين بهذا التاريخ.
يسارع الأصدقاء التونسيون، أو على الأقلّ بعضهم، لكي «يوضحوا» الصورة، ويعقّدوها بعض الشيء، محاولين جاهدين أن يتركوا أفقًا مفتوحًا… ولكنّ أصدقاءهم المصريين أسرع في الردّ: سمعنا هذا الكلام من قبل، سمعنا أن الوضع تحت الإخوان لم يعد يطاق، سمعنا أنّ الجيش قد يحمي المسار الديموقراطي، سمعنا أنّ الشعب فرحان ومرسي مكروه، سمعنا أنّ لا خيار… سمعنا كل هذا، ولكن يبقى ما جرى إنقلابًا…
فسؤال «الانقلاب» هو أحد أسئلة الثورات العربية، خاصة بعد التجربة المصرية، إحدى معضلات التحوّل السياسي، أو استحالته، بعد تعثّر المسارات التغييرية. في هذا السؤال، تتكثّف عدّة مسائل، منها الموقف من الإسلام السياسي والخيبة من الأحزاب وإغراء الدولة وتفكيك فكرة «الشعب» وغيرها من الأمور…
من تونس اليوم، مرورًا بمصر البارحة إلى لبنان غدًا… حتى في لبنان الذي اشتهر بضعف جيشه وعدم وقوعه في فخ انقلابات القرن العشرين، وإن كان قد وقع في فخوخ أخرى، هناك إغراء متزايد تجاه فكرة الإنقلاب الخلاصي الذي يخرجنا من دوامة الأحزاب المتصارعة والطوائف المتنازعة إلى جنة الدولة المركزية والجامعة والقادرة. أفلم تُرفَع أعلام الجيش في بعض زوايا الثورة، وألم يتحمّس البعض لشائعات أنّ الجيش قد يستلم، أولم يؤدِّ القرف الحالي من ممارسات الأحزاب إلى شكوك، تصل إلى الارتياب من العملية الديموقراطية، وأحيانًا بفوقية مقززة تجاه الشعب؟
لكن يبقى السؤال، لماذا هذا السجال حول توصيف ما يجري؟
فهو ليس معرفياً يدور بين خبراء يحاولون تقييم ما جرى من أجل كتابة تاريخ هذه المرحلة. كما هو ليس سؤالاً يطرحه الإنقلابيون أو المنقلب عليهم، فهم يدركون تمامًا الإجابة على هذا السؤال. هو سؤال جيل الثورات العربية، سؤال يحدّد حدود هذا الحقل السياسي، وخطوط تماسه، وحساسياته السياسية المتنازعة. وراء سجال الانقلاب، السؤال الدائم عن «المع والضد»، ووراءه الاعتراف بأنّنا خارج السياسة، محكومون بمعادلة مسار «ديموقراطي» فاشل و«إغراء» انقلابي لم ينجح من قبل.
إنقلاب؟ سنعرف الجواب بعد بضعة أيام. ولكنّنا على الأرجح سنندم على الجواب.