شكلت الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 تموز منعرجاً سياسياً، يصعب قياس آثاره في الوقت الراهن. إلا أنه ليس من باب المخاطرة التحليلية الإقرار بأن ذلك التاريخ يشكل اليوم نقطة فاصلة في التاريخ السياسي الراهن لتونس.
وهذا خاصةً إذا ما نزلناه في سياق التسلسل التاريخي الجديد الذي فتحته انتفاضة كانون 2010 وما تلاها من مأسسة للانتقال الديموقراطي، تزامناً مع تحركات شعبية متواصلة كان هاجسها الأساسي المسألة الاجتماعية.
وعلى أهمية الضمانات الديموقراطية غير القابلة للمساومة التي تطالب بها جلّ فعاليات المجتمع المدني، لا يستوعب التناول القانوني الشكلاني التناقضات الطبقية والسياسية والمسارات التاريخية التي وفّرت شروط إمكان اللحظة القيصرية التي تجلّت في قيس سعيد.
أزمة الهيمنة واحتضار الدولة
كان السياق السياسي التونسي في السنة الأخيرة مأزوماً إلى حدّ كبير.
فبالإضافة إلى هشاشة سلطة الدولة التي صارت خاضعةً لمقايضات حزب حركة النهضة بملفات فساد شركائها في الحكم وحرب المواقع التي تخوضها داخل الإدارة، خضعت المؤسسات السياسية إلى تفتيت قوتها التنفيذية في تقديم الخدمات العمومية للمواطنين. تزامن هذا التفتيت مع تضخم للقدرات القمعية لوزارة الداخلية ولنزعتها السلطوية، استمرّ طيلة سنوات الانتقال الديموقراطي. وجاء تجاهل حكومة هشام المشيشي لأبسط مقتضيات مقاومة جائحة كورونا ليزيد وتيرة التدهور. كما تعاظم ضغط المؤسسات المانحة من أجل المضي قدماً في الإصلاحات التقشفية التي انخرطت فيها الحكومات المتعاقبة.
تمظهرت آثار تقلص قدرات الدولة التونسية خلال السنوات الأخيرة على مستوى مؤسسات «اليد اليسرى»، خاصةً منها الصحة العمومية. إلّا أن أزمة الضبط الإجتماعي هذه ليست جديدةً على الدولة التونسية. فهي في صلب اقتصادها السياسي منذ انخراطها في التقسيم الدولي الجديد للعمل وخضوعها لسياسات الإصلاح الهيكلي سنة 1986. وقد أنتجت هذه السياسات آثاراً هامةً على أنماط التدخل الاجتماعي للدولة وعلى وظائف الهيمنة الاجتماعية للطبقات الحاكمة التي صارت شيئاً فشيئاً خاضعةً لإملاءات السوق العالمية، إذ ترجم إخضاع اقتصاد البلاد بتقلص قدرات الطبقات الحاكمة على إعادة إنتاج قوة العمل وبتأزم اجتماعي متواصل.
المخاض العسير لـ«الانتقال الديموقراطي»
لقد شكّل المسار الديموقراطي الذي بدأ بعد 14 كانون الثاني 2011، منعرجاً من حيث مأسسة الديموقراطية التمثيلية. توّجت هذه الديموقراطية بدستور كانون الثاني 2014، وظهرت إمكانيات تعبير مواطنية وتطلعات ديموقراطية، تجلت من خلال حركية نضالية وشعبية واسعة على مدى عشر سنوات.
لكنّ هذا المسار بقي خاضعاً لـحرب المواقع التي خاضتها حركة النهضة داخل مؤسسات الدولة بحثاً عن الاندماج. كانت حرب المواقع هذه تخاض ضد ومع النظام القديم ورموز الفساد الإداري والمالي، بإستخدام المقايضات بملفات الفساد وبتعامل نفعي مع مؤسسات الدولة وإحتلال مواقع هامة داخل الأجهزة الإدارية والقضائية، ناهيك بالشبهات التي تحوم حول الجهاز السري لحركة النهضة الإسلامية الذي ارتبطت به قرائن التورّط في التستّر عن جرائم إرهاب واغتيالات سياسية. وقد انعكس نمط إدارة الصراع هذا على المؤسسات الديموقراطية التي جاءت في دستور كانون الثاني 2014 الذي كان ثمرة توافقات. وفرض هذا السياق تنازلات على حركة النهضة، ما مهّد إلى زمن التوافق الذي ربطها بحزب نداء تونس بعد انتخابات 2014.
ولادة القيصر: قيس سعيد، الدولة والثورة
خلال حملته الإنتخابية سنة 2019، ركز أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد على نقطتين إثنتين: مركزية المسألة الإجتماعية في المسار الثوري وبرنامج «قلب الساعة الرملية للسلطة» الذي تبلور في نقاشات جمعته بمجموعة من النشطاء اليساريين لم تفترق منذ اعتصام القصبة سنة 2011. ظهر للعديد من القوى اليسارية والتقدمية في ذلك الوقت أن تركيز ساكن قرطاج الحالي على المسألة الإجتماعية من قبيل «الشعبوية» التي لا تقترح برنامجاً، فقد بانّ تباعاً أن غياب البرنامج هذا يندرج في صلب تصوّر سعيد لنمط التعبير عن السيادة الشعبية الذي ينبغي ترجمته سياسياً بتنظيم جديد يقترب من التنظيرات السياسية للتيارات الأناركية والمجالسية، رغم أنه لا يفصح عن نفسه كذلك. ومن هذا المنظور، يعتبر مشروع قيس سعيد مساءلةً لمسار «الإنتقال الديموقراطي»، بإعتباره رسخ ديموقراطية تمثيلية عززت إغتراباً مواطنياً بدل أن تمحو أسبابه، وعمّقت الأزمة الإجتماعية بدل أن تنتج لها حلاً سياسياً.
أما بعد ولوجه الحكم، فقد صار الرئيس الجديد يتحدث من زاوية الدولة. فرجل القانون الذي يطرح نظاماً مجالسياً صار رجل الدولة، بل طرح نفسه في سياق حرب المواقع التي فرضتها حركة النهضة في المؤسسات الحاكمة وآثارها على إدارة الشأن العام، كرجل - دولة. ويكفي الإطلاع على خطابات الرئيس منذ إنتخابه حتى نتبين رؤيةً سياسيةً تسكنها نوستالجيا الدولة التنموية الراعية وطموح إستكمال مشروع ما بعد الإستقلال. وإذا ما ربطنا هذا الحدث السياسي بطلب الدولة الذي تعبر عنه الحركات الشعبية طيلة السنوات العشر الماضية، يمكن طرح السؤال التالي: هل تكثف في قيس سعيد حل سياسي جدلي لثنائية الدولة والثورة؟ سيبقى السؤال معلقاً في الزمن الراهن. لكن هذا لا ينتقص من مشروعية المخاوف على المكتسبات الديموقراطية الحقيقية خلال هذه الفترة الدقيقة التي تعبر عنها اليوم العديد من الفعاليات التقدمية واليسارية في البلاد. كما أن هذه المواقف مشروعة من حيث التصور الثوري للفعل السياسي، باعتباره فعلاً جماهيرياً شعبياً يتناقض مع تركيز السلطة بيد القائد الواحد.
إلّا أن اللحظة الحالية في تونس تتطلب تجاوزاً تحليلياً لثنائيات الدوكسا السياسية، إذ أن الحالة الراهنة تظهر فعلاً سياسياً قيصرياً يحمل في طياته مخاطر الانفراد الاستبدادي بالسلطة، لكنه مسنود بدعم جماهيري لا يمكن التشكيك فيه.