بعضنا يذكر ويتندّر بمقولة الرئيس التونسي قيس سعيّد خوفي على الدستور القادم أن يأكله الحمار، والتي ردّدها عديد المرّات تعبيرًا عن مخاوفه من أنّ يتمّ التحايل على دستور 2014. كان ذلك قبل أن تتمّ المصادقة على الدستور، وأن يصبح قيس سعيّد رئيسًا بموجبه.
الدستور أكله الحمار، وخاصة من قبل الأغلبية الحاكمة خلال الفترة النيابية الحالية، والتي انطلقت منذ أواخر سنة 2019.
مشهد برلماني عبثي. كتل متنافرة في ما بينها، وحتى داخلها. رئيس يغلّب الحسابات السياسية على المصلحة العامة. خزعبلات وتحايل وعنف وصل إلى الضرب والصفع. حصيلة تشريعية مخجلة. تَعاقُب حكومات لم تجعل من الشأن العام أول اهتماماتها.
هذا المشهد كان يبثّ مباشرة للتونسيين والتونسيات بصفة شبه يومية على القناة الوطنية الثانية، ما أثار الحنق والغضب والاشمئزاز لدى الكثيرين منهم/ن.
بعد مرور سنة ونيف على هذه الحالة، أظهرت نتائج سبر الآراء التي تعطي معطيَيْن مستقرّين، هما:
- استقرار شعبية الرئيس قيس سعيّد.
- الارتفاع المتسارع لـرفض الشارع للأحزاب السياسية الحاكمة، خاصة حركة النهضة.
وظهر تدنّي شعبية حركة النهضة من خلال مؤشّرين هامّين:
- التدني الكبير لشعبية رئيس الحركة، إذ تمّ اعتباره أقل شخصية تتمتّع بثقة التونسيين والتونسيات.
- الارتفاع المبهر لشعبية الحزب الدستوري الحر الذي تمكن، من خلال خطة اتصالية محكمة، تأسيس علاقة صدامية بينه وبين حركة النهضة.
زار الرئيس قيس سعيّد الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم 9 نيسان.
بعد شهر تقريبًا، تمّ تسريب وثيقة من القصر الرئاسي وتداولها من قبل أغلب وسائل الإعلام العالمية، مما يدعم بشدّة فرضية وجودها. الوثيقة تتمثل في مخطط «انقلابي دستوري» من خلال تفعيل أحكام الفصل 80 من الدستور الذي ينصّ على الحالة الاستثنائية. نصت هذه الوثيقة أيضا على نية الرئيس سعيد تركيز كل السلطات المدنية والعسكرية بين يديه من خلال إعفاء رئيس الحكومة وحل مجلس النواب وتعيين خالد اليحياوي وزيرا للداخلية بالنيابة، وغيرها من الإجراءات التي تجعل من قيس سعيّد السلطة الوحيدة في البلاد.
ويوم 25 تموز، حدث ما تنبأت به الوثيقة.
وسط ذهول عام، أطلّ الرئيس قيس سعيّد محاطًا بعدد من القيادات العسكرية ليعلن تفيعله للفصل 80 من الدستور، وإعفاء رئيس الحكومة وتعليق أعمال مجلس النواب وعديد الإجراءات الأخرى التي ذكرتها الوثيقة المسرّبة. 1
فرحة واسعة سرت في الشوارع وخرج الناس جحافل، مباشرة إثر هذا الإعلان، للاحتفال بعزل حركة النهضة وأتباعها من الحكم. مسألة واحدة من الواضح أنها غابت عن الأذهان حينها: هل ما قام به قيس سعيد يحترم الدستور؟ هذا الدستور الذي أقسم الرئيس على احترامه!
من الواضح أنّ النشوة الحاصلة لدى فئة واسعة من الشعب قد جعلت من هذا السؤال مسألة ثانوية لدرجة أن كثيرين اعتبروا أن قيس سعيّد احترم الدستور. والحال أنّ الإجراءات المتّخذة لا تحترم من الناحية القانونية الدستور التونسي:
- الشروط الجوهرية: أي وجود الخطر الداهم وعدم إمكانية السير العادي لعجلة الدولة، وهو ما تسبّب به الرئيس أيضًا من خلال عدم ختمه للقوانين وعدم قبوله الوزراء لأداء اليمين أمامه.
- الشروط الشكلية: أي إعلان الحالة الاستثنائية، وهي تتطلب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، وهذا ما لم يتمّ.
كما لم يفترض الفصل 80 من الدستور تجميد أعمال المجلس التشريعي الذي يجب أن يبقى حسب الفصل في حالة انعقاد دائم، وهو ما تجاهله الرئيس معلناً تعليق أعمال مجلس نواب الشعب مبرراً الأمر بأن الدستور لم يمنع ذلك!
بالرغم من ذلك، فقد طغى الصراع السياسوي، والذي كان محوره إزاحة حركة النهضة، على مسألة احترام الدستور من عدمه.
أمّا بالنسبة للأحزاب السياسية، فقد تباينت آراؤها بين مؤيد ومندّد:
- ندّدت مكوّنات الائتلاف الذي كان حاكمًا، أي حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس، بالإجراءات المتخذة واعتبرتها انقلابًا. وقد وافقتها في ذلك أحزاب كانت معارضة لها، مثل التيار الديمقراطي وحزب العمال وحزب القطب.
- أيّدت بعض الأحزاب الاجراءات تأييدًا كامًلا، من بينها حركة الشعب التي تعتبر قريبة جدا من الرئيس قيس سعيّد والحزب الحر الدستوري الذي يعرف بعدائه الكبير لحركة النهضة.
- بقيت مواقف عدد من الأحزاب الأخرى متباينة.
ستعيد هذه المواقف تشكيل الواقع البرلماني والسياسي في تونس.
- فمواقف الكتلة البرلمانية الديمقراطية (التي تتكون من حركة الشعب والتيار الديمقراطي) متصادمة، وهو ما يعني وجود صدع كبير ضمن هذه الكتلة في علاقته بما يقوم به قيس سعيًد.
- بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الإجراءات ستثير على الأرجح تحويرات كبيرة داخل حزب النهضة من خلال إعادة التوازنات السياسية داخله، وبروز قيادات من الصف الثاني والصف الثالث أقرب لرئيس الجمهورية ويمكنهم التعامل معه، مع إمكانية أفول القيادات التاريخية التي تسبّبت، حسب جزء من الرأي العام، إلى انخرام الوضع السياسي داخل الحركة وخارجها.
- أما بالنسبة لمكونات المجتمع المدني، فقد كانت المواقف متباينة إلّا أنّ أغلبها لم يصنّف الإجراءات المتخذة بالانقلاب، باستثناء عدد قليل من الجمعيات. فأغلب الجمعيات فضلت الانتظار والترقّب وطلب ضمانات من الرئيس لعدم تحول الإجراءات التي اتخذها إلى استبداد ينسف الديمقراطية التونسية الناشئة.
في هذا الإطار، ارتأى الرئيس قيس سعيّد مباشرةً بعد اتخاذ الإجراءات لقاء عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، من بينها الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وغيرها، التي اكتفت بالتأكيد على ضرورة وجود ضمانات ولم تطالبه بالعدول عن الإجراءات التي اتخذها.
أكثر من ذلك، باشر الرئيس سعيّد مهامه كرئيس جامع للسلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بإصدار عدد من الأوامر الرئاسية:
أمر بعزل عدد من الموظفين السامّين والإطارات بعديد الوزارات، أولهم رئيس الحكومة، وإيقاف عمل بعض مؤسسات الدولة مدة يومين، من بينها المصالح الإدارية. كما أمر بتمديد فترة حظر التجوّل، وتشديد إجراء منع التنقل بين الولايات، وغيرها من الإجراءات التي تحدّ من الحقوق والحريات دون أي رقابة لاحقة. 2
إذ يبدو أن الرئيس قد ارتدى من خلال الإجراءات التي اتخذها جبّة من القدسية تجعله في منزلة لا يطالها النقد.
في الختام، قيل إنّ الديمقراطية ثوب يتنكر به الطغاة وهو ما يوجب الحذر واليقظة الدائمة. إذ لا يجب أن ننسى سليم الجبالي الذي سُجن لمجرّد انتقاده لقيس سعيّد عبر تدوينة، وغيره من الأشخاص الذين تمّ تتبّعهم لمجرّد انتقادهم للرئيس.
لكن لا يجب أن ننسى أيضًا أن الديمقراطية كانت مطلبًا للشعب ذات يوم من أيام 2010. فلا الشعبوية المفرطة التي جاء بها قيس سعيد منذ انتخابه، ولا ردّة الفعل الانفعالية تجاه الأحزاب السياسية التي استعملت الديمقراطية لخدمة حساباتها الضيقة، كفيلان بالرجوع إلى مربع القمع والترهيب.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحا: هل أكل أستاذ القانون الدستوري الدستور ضربة واحدة؟