في أوائل التسعينات، وإثر انتهاء المعارك في لبنان، عاد حسين إبن عمي إلى بلدته وهو يحمل عبوة ناسفة تزن سبعة كيلوغرامات. لا نعرف كيف ولماذا فعل ذلك، لكنّ ما نعرفه من القصة أنّه بعد عشر سنوات، انفجرت العبوة في جسده الذي تناثر في البساتين التي تقع وسط البلدة.
تصرّ عائلتي حتّى اليوم إنّه لم ينتحر، بل تعرّض لحادث خلال تفكيكه العبوة من أجل بيعها وتأمين بعض النقود لإدخال والده إلى المستشفى. لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال، خصوصاً وأنّ حسين كان متخصّصاً بتفكيك الألغام، وقد عمل بهذه المهنة سنواتٍ طويلة، قبل أن يترك حزبه نهائياً ويصبح عاطلاً عن العمل.
في اليوم نفسه الذي قُتل فيه حسين، أصيب عمّي بجلطةٍ دماغيّة ورفضت المستشفى إدخاله بدون دفع مبلغ مئة ألف ليرة. لم يكن يملك النقود الكافية، ولم يستطع تأمينها من أصدقائه. كما أنّ إخوة حسين الثلاثة عشر كانوا جميعاً في بيروت، ولا يعيش سواه في البلدة مع أهله.
بعد عودة حسين من الجبهة بأشهر، ترك حزبَ الله نهائياً. اكتشف عملية سرقة قام بها أحد المسؤولين في البلدة، فتواصل مع الأعلى منه، لكنّهم كذّبوه وفضّلوا تصديق السارق، فقرّر حينها ترك الحزب. حاول العمل في البناء، لكنّ جسمه كان ضعيفاً. لم يتمكّن من تعلُّم أيّ مهنة بعدما أمضى أكثر من نصف حياته في القتال. مشروعه الوحيد شبه الناجح كان مقهى يضمّنه كلّ صيف قرب النهر، إلا أنّ المدخول منه لم يكن يكفيه سوى لشهر أو شهرين من الشتاء.
حين تحدّثتُ مع والدته، أخبرتني أنّها وجدته قبل أيّام من الحادث يبكي حزناً على والده المريض، ويشعر بالعجز. قال لها بالحرف الواحد: «إخوتي جميعهم في بيروت، وليس هناك غيري مَن يجاهد من أجل أبي».
في المرّة الأخيرة التي رأيتُ فيها حسين، كان واقفاً على جانب الطريق قرب منزله. لم أعرفه في البداية بسبب لحيته التي تركها تطول للمرّة الأولى منذ عودته من القتال. كان شكله يبدو تحديداً مثل المجاهدين الذين نرى صورهم معلّقةً على الطرقات.
بعد موت حسين، وجدت عائلته من يتبرّع لها، وأدخِل أولاده إلى مدرسة مستواها جيّد جدًا. وتحسّن عمل زوجته التي ستنتقل بعد عامين إلى بيروت، وتفتتح مطعمها الخاص.
لنتخيّل للحظةٍ أنّ حسين هو بيروت، وما حصل معه، مَجاز عمّا حصل في المدينة. ألا يمكننا القول إنّه، وكما كُتِب قَدَر حسين حين أحضر العبوة من الجبهة، كُتِبَ قَدَر بيروت في اليوم الذي أفرغت السفينة فيه حمولتَها؟
عندما وُلدت بيروت كمدينة لها موقع وأهمية، كان السبب هو المرفأ الذي تعاظم دوره تدريجياً إلى أن أصبح المرفأ الأهمّ في شرق المتوسّط. لذلك، ليس خطأً تسمية ما حصل منذ أيام انتحاراً... فالذي انفجر هو قلب المدينة أيضاً.
لكن، لولا الحروب التي شارك فيها حسين سنوات طويلة، هل كانت العبوة ستدخل بيته؟ ولولا الحروب التي شهدها الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، هل كانت تلك السفينة ستأتي إلى بيروت؟
لا يستبعد كثيرون احتمال أن تكون السفينة متّجهةً من الأصل إلى بيروت، خصوصاً وأنّنا نتحدّث عن فترة كانت الحروب خلالها مشتعلة في المنطقة. فكما ارتكب حسين الخطأ ووضع العبوة في منزله، ارتكب لبنانيون آخرون الخطأ نفسه، ووضعوا قنبلة موقوتة في قلب مدينتهم. لكن ألم يكن هؤلاء متعايشين أصلاً مع الموت الذي أصبح مع الوقت سبب وجودهم؟ لا يستطيع لبنان العيش بدون حرب، لأنّ اقتصاده أصبح أسيراً لها. في الثمانينات، استطاعت الحرب في لبنان تعزيز وضع الليرة وإدخال الاستثمارات العربية والفلسطينية إليه. حصل الأمر نفسه خلال سنوات الحرب في سوريا، إن كان من ناحية الاستثمارات العربية- الخليجية أو الإيرانية التي دخلت إلى سوريا عبر لبنان، وأبقت اقتصاده المحلي واقفاً على قدميه.
لم يعد اللبنانيّون يعرفون العيش بدون حرب، ما يمكن تشبيهه بما حصل مع المقاتلين الذين وجدوا انفسهم أيتاماً بعد العام 1991. هؤلاء سينفجرون منفردين مثل حسين من دون أن يعرف بهم أحد، لأنّهم وصلوا إلى باب مغلق، وما عادوا يعرفون الهدف الذي يعيشون من أجله.
بيروت مثل هؤلاء، انفجرت منذ أيّام لأنّها وجدت نفسها وحيدةً وبدون هدف: لا اقتصاد ولا استثمارات تحمي عملتها. كلّ شيء أصبح سراباً... حتّى المباني الفخمة والأحلام الناصعة التي رسمتها مصارفها. لم يعد هناك سوى اليأس والاكتئاب الذي أوصلها إلى باب مغلق، لم يعد ينفع معه سوى الحلّ الأسهل الذي لطالما لجأت إليه للتنفّس مجدّداً. أن تموت وتنفجر لتعيش من جديد... على طريقتها.