طالبت الثورة منذ انطلاقتها بحكومة مكونّة من وزراء «تكنوقراط ومستقلين». سارعت السلطة بتلبية هذا الطلب وتبنّت فكرة التكنوقراط كخشبة خلاص من غضب الشارع. فبدأ كل سياسي حامل لشهادة جامعية، بدلاً من بطاقة حزبية، يقدّم نفسه كتكنوقراط، وبالتالي كخيار الثورة.
فجأةً بدت أكثرية حكومات لبنان تكنوقراطية. أليست ريا الحسن تكنوقراطية، أو حتى فؤاد السنيورة؟ ألا يمكن اعتبار إلياس بو صعب تكنوقراطيًا أو حتى جميل السيد، موظف الدولة الكفوء الذي حدّث مؤسسة الأمن العام بفعالية لاقت إعجاب المؤسسات الدولية؟ لم يبقَ خارج جنّة التكنوقراط إلّا بضعة سياسيّين «تقليديّين» ما زالوا ينتمون لحزب أو حركة.
لا ينبع هذا اللغط من سوء نية السلطة في ملاقاتها لمطالب الثورة وحسب، بل من طبيعة هذا المطلب ذاته، وهو الذي بات بحاجة لإعادة تعريف. فتقوم صفة التكنوقراط على فرضيّتين سقطتا مع الثورة، أو بكلام أدقّ فإنّ سقوطهما هو الثورة. فرضيتان تتقطعان برفضهما للسياسة.
تقوم الفرضية الأولى على: انحسار الخيارات الاقتصادية، وحصرها بمنظومة باتت معروفة المعالم، تقوم على خلطة من الخصخصة والتقشّف والثبات المالي والسوق الحرة. فمع انتهاء الحرب الباردة، انحصرت المخيلة الاقتصادية بهذا النموذج، نافية الحاجة لخلافات على السياسات الاقتصادية. وتمّ استبدال هذه الخلافات بتقنيات تطبيق هذه الوصفة المعروفة. بات التكنوقراط هم من يطبّق هذه الوصفة بجدارة المستشار الشاطر.
أمّا الفرضية الثانية، فهي استبدال صفة التمثيل السياسي بميزة الخبرة التقنية والنزاهة الشخصية. فمع انحسار الاختلافات في السياسات الاقتصادية، لم يعد من داع لصفة «تمثيلية» عند السلطة، كون مسؤوليتها محصورة بتطبيق نموذج محدّد مسبقًا. وبدل «التمثيل»، أصبحت الصفة الأساسية هي «التطمين». فعلى السياسي الصالح أن يكون له ميزات خاصة، من مهنية ونزاهة وشفافية، تسمح له بأن يطمئن الأسواق العالمية والمانحين الدوليين والاقتصاد المحلي. التكنوقراط هم من يطمئنون مَن وضع الوصفة بأنّها ستُطبَّق بحذافيرها.
لكنّ الثورة أسقطت تلك الفرضيات عندما بدأت تبتعد عن شعار «مكافحة الفساد» لتطرح مسألة النموذج الاقتصادي المتّبع في لبنان. ومع عودة الصراعات على السياسات الاقتصادية، ظهرت جيوش التكنوقراط على حقيقتها، مجرّد مستشارين لمصارف محلية وصناديق مالية، أي حرّاس النموذج الذي أسقطته الثورة. ومع احتدام الصراع حول مسألة إعادة توزيع أعباء الأزمة، عادت الصفة التمثيلية إلى الواجهة، وإن لم يكن تمثيلًا انتخابيًا، وفضحت صفة «التطمين» لما هي عليه، أي مجرّد ارتهان للسوق.
بهذا المعنى، ربّما بات من الضروري الانتقال ليس إلى مرحلة التسمية، كما تريد السلطة، ولكن إلى مرحلة تحديد مواصفات الحكومة المطلوبة. وهي حكومة قادرة على حمل نموذج اقتصادي مختلف وعلى تمثيل روح الثورة، أي روحية العدالة الاجتماعية. وهما ميزتان مفقودتان عند جيوش التكنوقراط اللاهثة وراء مقاعد الحكومة الجديدة.
ولكن قبل الخوض بهذا النقاش، علينا التعاطي مع «التكنوقراط» الجديد الذي نبشه الجناح المسلّح للسلطة من بين أخصائيّي الدرجة الرابعة. تكنوقراط فاشل جاء على ظهر سلاح ناجح، لا يبدو له أي دور إلّا إفهام الناس أن عنجهية هذا السلاح وتوابعه باتت بلا حدود: سنختار الأسوأ ونفرضه لمجرّد أنّنا نستطيع.
الردّ، كالعادة، في الشارع.