يسود انطباع عامّ بأنّ وتيرة تحرّكات الثورة وحجمها يتراجعان بين الحين والآخر، وهو ما يعني الخشية من تراجع مستوى الضغط الذي ستشكّله في المرحلة المقبلة على السلطة. لكن، يبدو من مؤشّرات الانهيار المالي والاقتصادي أنّ التراجعات الظرفيّة للشارع ستصبح تفصيلاً بسيطاً في المرحلة المقبلة، مع اتّجاه البلاد نحو انفجار اجتماعي وسياسي كبيرَيْن. وإذا كانت ثورة 17 تشرين قد قامت كثورة سياسيّة كلاسيكيّة أنتجتها تناقضاتٌ وتراكماتٌ اجتماعيّة واقتصاديّة معيّنة، فالأرجح أنّ الأحداث المقبلة قد تولّد في الشارع «ثورة جياع» حقيقيّة، وهو ما سيخلق واقعاً من الصعب استيعابه سياسيّاً من جهة السلطة.
مؤشرات التفجّر الاجتماعي منذ اندلاع الثورة، انهار سعر صرف الليرة في السوق الموازية خارج النظام المصرفي، في ظلّ امتناع المصارف اللبنانيّة عن توفير حاجة السوق من العملة الصعبة. ومع هذا الانهيار في سعر الصرف، أخذت أسعار السلع المستوردة بالارتفاع بنفس نسبة انخفاض سعر الصرف، وهو ما يعني تلقائيّاً تراجع القدرة الشرائيّة للأسر بالنسبة نفسها. لم تخرج بعد إحصاءاتٌ دقيقة لمستوى التضخّم بعد كلّ هذه الأحداث، لكنّ نسبة تراجع سعر صرف الليرة حتّى اللحظة تؤشّر إلى ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 30% و35%. ومع أي تراجع مقبل في سعر الصرف، من المفترض أن ترتفع أسعار السلع وتتراجع القدرة الشرائيّة للمواطنين بشكل متناسب. ويصاحب هذا التراجع في القدرة الشرائيّة حملات صرف جماعيّة يوميّة، باتت أخبارها على كل لسان. إضافةً إلى مسألة سعر الصرف، يتراجع تدريجيّاً السقف الذي تسمح به المصارف للسحوبات النقديّة، بما في ذلك السحوبات من حسابات توطين الرواتب. وفي الواقع، بلغ مستوى السحب المسموح به في بعض الفروع المصرفيّة حدود الـ200$ أسبوعيّاً للحسابات بالدولار الأميركي، مع توقّعات بخفض هذا المستوى في جميع الفروع المصرفيّة في الأسابيع المقبلة. وفي كل الحالات، بدأت تؤثّر هذه المسألة حتّى على قدرة اللبنانيين على الاستفادة من شيكات صناديق التعاضد والضمان الاجتماعي. أمّا المسألة الأخطر اليوم، فتطال قدرة لبنان على تأمين حاجته من الدولار الأميركي من أجل الاستيراد، وهو ما يطرح مسائل حساسة مثل الأمن الغذائي، مع العلم أن تقرير «بنك أوف أميركا ميريل لينش» قدّر أن احتياطي مصرف لبنان من العملة الصعبة سيعجز عن تلبية حاجة البلاد من الدولار في منتصف السنة المقبلة، إن استمرّت وتيرة السحوبات النقديّة الحاليّة.
سيناريوهات التفجّر الاجتماعي يمهّد تراجع القدرة الشرائيّة، وعجز اللبنانيين عن الاستفادة من أموالهم في المصارف، مع تفشّي البطالة بشكل واسع، وانقطاع مُحتمَل للعديد من الأصناف المستوردة، بما في ذلك السلع الحيويّة، يمهّد كلّ ذلك لصورة مخيفة على المستوى الاجتماعي. فالمقبل إذاً هو انفجار ستكون شرارته كتلة بشريّة غير قادرة على توفير الحد الأدنى من شروط الحياة الطبيعيّة. وفي هذه الحالة، سيكون المشهد أصعب على السلطة بما لا يُقاس مع مشاهد الفترة الماضية، إذ سيصعب استيعاب هذا الوضع من خلال المناورات السياسيّة التقليديّة التي تعاملت من خلالها السلطة مع الاحتجاجات الماضية. لكنّ المسألة ستشكّل أيضاً تحدّياً ذا طبيعة خاصة أمام كلّ من يطرح مشروعاً تغييرياً جذرياً على المستوى الوطني. فالسؤال سيكون تلقائيّاً عن وجهة هذا الغضب الشعبي، وترجمته في السياسة. فهل ستوجّه هذه الحالة الشعبيّة غضبها على الفئة التي استفادت طويلاً من النموذج الاقتصادي القائم والسلطة التي رعَتْه؟ وهل ستحمل عناوين واضحة تحميها من تبعات الانهيار القائم؟ أم ستتّجه حالة الغضب هذه إلى فتح معارك عبثيّة مع فئات ضعيفة ومهمّشة، كاللاجئين مثلاً، عبر تحميلهم مسؤوليّة المعاناة القائمة؟ ما سيحدّد الإجابة هو قدرتنا على استباق هذا الموقف، وربط الأزمة الموجودة بوضوح بالعناوين السياسيّة الأعمّ التي حملتها الثورة خلال الأسابيع الأولى. عندها فقط يمكن لانهيار النموذج الاقتصادي اللبناني أن يكون باباً لانهيار موازٍ في النظام السياسي القائم والفئات الممسكة بزمام أموره.