غادرتنا السينمائيّة جوسلين صعب في العام 2019 تاركةً لنا ذاكرةً خصبة عن تاريخ لبنان المعاصر من خلال مسيرة طويلة استطاعت فيها أن تمزج العمل الصحافي بالمقاربة السينمائيّة من خلال أعمال وثائقيّة وروائيّة وتجربيّة مع بحث أيضاً عن الأرشيف ومحاولة المحافظة عليه واستعماله.
كما كان لها محطّات جعلتها تشهد على أحداث تاريخيّة تخطّت العالم العربي وتجارب سينمائيّة دخلت من خلالها إلى التابوهات الاجتماعيّة مثل فيلمها دنيا (2005) الذي صوّرته في مصر.
تشكّل أعمال صعب مع أفلام جيل السينما اللبنانيّة الجديدة في السبعينيّات (برهان علوية ومارون بغدادي وجان شمعون ورندة الشهال...) كتاب تاريخ معاصر يتخطّى مشكلة عدم الاتفاق المحلّي على كتاب موحّد للتاريخ.
أخرجت جوسلين صعب مع يورغ ستوكلين أوّل فيلم وثائقي طويل عن الحرب اللبنانيّة سنة 1975 بعنوان: لبنان في الدوّامة حيث قابلت المسؤولين وقامت بتفكيك صورة البطاقة البريديّة التقليديّة لتظهر حجم المشاكل والانقسامات الداخليّة .
ثم تابعت تغطية الحرب من خلال تقارير وأفلام وثائقيّة قصيرة أو متوسطة الطول في بيروت وجنوب لبنان ومنها أطفال الحرب (1976)، رسالة من بيروت (1978) وبيروت مدينتي (1982).
انتقلت إلى الفيلم الروائي الطويل مع غزل البنات (1985) حيث أظهرت بيروت ما بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 مع دمارها والمهجّرين المقيمين فيها ومنهم سمر، الفتاة الجنوبيّة التي تتعرّف إلى كريم، الفنان الذي يعيش في البيت الزهري. تجمع الحرب جيلين وثقافتين في قلب المدينة الممزّقة.
في العام 1994، وبعد ثلاث سنوات من العمل المضني والبحث عن كميّة من الأفلام الطويلة المصوّرة في لبنان، أعلنت جوسلين صعب أنّها تنجز أوّل فيلم لها لا يتناول الحرب مباشرةً بل هو فيلم عن التاريخ اللبناني الذي تحاول نقله إلى الجيل الجديد.
أتت النتيجة بعنوان كان يا مكان بيروت، قصّة نجمة الذي عُرض في السينما في بيروت سنة 1995. يتضمّن الفيلم مشاهد من 24 فيلماً طويلاً (لبنانياً وعربياً) و20 فيلماً أجنبياً تمّ تصوير معظمها في لبنان منذ سنوات الانتداب الفرنسي حتى الثمانينيّات.
يشكّل الفيلم وثيقة تاريخيّة تظهر صوراً مختلفة لمقاربة تاريخ المدينة في القرن العشرين فتمتزج صور الاستعمار بالبطاقات البريديّة والنظرة الاستشراقيّة والهويّات المتقاتلة. بيروت مدينة الحب والجواسيس والممنوعات والحروب.
استمرّ بحث صعب عن تصوير العلاقة ببيروت بشتّى الوسائل، بدءاً بالتجهيز الفيديو عن المدينة مع الاعتداءات الاسرائيليّة الجديدة خلال حرب 2006 إلى الفيلم الروائي الطويل التجريبي والسوريالي: شو عم بصير؟ (2009) وصولاً إلى الكتاب الذي صدر قبل وفاتها، والذي نجد فيه بعضاً من صورها عن بيروت خلال الحرب.
تشكّل أفلام صعب رسائل مصوّرة تواكب التفتّت. لا شكّ أنّ أبرزها «رسالة من بيروت» حيث تقود صعب سيّارتها وتعبر الحواجز التي لا تنتهي في بلد لا يعرف إن كان في حالة سلام أو حرب. تصوّر الناس في باص فرنسي للنقل العام يجوب ساحة الشهداء. هناك دمار الحجر وهناك معاناة الناس اليوميّة. كم سيتكرّر المشهد نفسه في حال وُضعت باصات الهبة الفرنسيّة اليوم في الخدمة العامّة، في بلد يستمرّ في الدوّامة.
يُظهر هذا التكرار المتواصل بين صور الأمس والماضي مدى أهميّة الحفاظ على هذه الأفلام لإطلاق مشروع مستمرّ من التواصل بين الماضي والحاضر أو مع ما يمكن تسميته أكثر بالماضي الحاضر. ويأتي الترميم الحالي لهذه الأفلام كخطوة أساسيّة على خطى تسجيل الذاكرة الجماعيّة بمقاربات مختلفة من توقيع صعب أو بغدادي أو علويّة وأفراد هذا الجيل المؤسس.
في بلد يعشق فقدان الذاكرة، يأتي هذا التراث السينمائي ليدوّن محطّات كتاب تاريخ خاص وحيّ بالصورة والصوت قد يساعدنا أكثر لفهم حاضرنا.