مليون و400 ألف مشيّع. مليون. 800 ألف. 400 ألف. 200 ألف. كلّها أرقام تختصر، رغم الفوارق بينها، مشهداً واحداً: التشييع ضخم، ربّما الأضخم في تاريخ لبنان، وقد جاء لينسف هرطقة إنّ «حزب الله انتهى». الحزب لم ينتهِ، هو في طور التغيير، وفي مرحلة تطوّر وتبدّل وتحوّل، مرغماً، تبعاً للهزيمة العسكرية- غير المعلنة، ولخسارة رمزه الذي لم تعرف أجيالٌ غيره طيلة ثلاثة عقود. حزب الله لم ينتهِ، وهذا ما أكّده المشيِّعون، وإن كانوا قد حضروا لتأبين مرحلة والإعلان عن مرحلة أخرى يسير إليها الحزب وجمهوره خطوةً تلو الأخرى، مرحلة ما بعد الدور الإقليمي وتبدُّل شكل المقاومة، مرحلة العودة إلى الداخل واهتماماته المحليّة. وهذا ما جاء، أيضًا مرغمًا، في خطاب أمين عام «حزب الله الجديد».
نحن الآن أصبحنا في مرحلة جديدة، هذه المرحلة الجديدة تختلف أدواتها وأساليبها وكيفية التعامل معها.
قال هذه العبارة أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، في خطاب التشييع. لم يقصد بها حرفياً أنّ حزب الله بات في مرحلة جديدة، إذ أكّد أيضاً- كما كان متوقّعاً- على شعارات استمرار «المسيرة» وعلى عنوان التأبين: إنّا على العهد. قصد قاسم أنّ شكل مقاومة حزب الله للاحتلال تغيّر، وكذلك دوره. تراجع حزب الله إلى شمالي الليطاني، وربما أبعد منه، وبذلك تراجع إلى خلف الجيش والدولة اللبنانية، وأوْلاهما مهمّة استعادة الأرض وتحريرها. ومع تبدّل هذا الجانب، يمكن طرح العديد من الأسئلة حول ماذا يبقى من حزب الله من دون مقاومة إسرائيل: أضخم حزب في البلد جماهرياً وتأثيراً، مع مخزون متمدّد من العقيدة الدينية المرتبطة عضوياً بإيران، وأدبيات لا تقرّ بالهزائم والخسائر رغم الانكسارات الفاضحة.
يا سيّدنا اطمئنّ، القيادات موجودة والمقاومات موجودات، والشعب من كل الطوائف موجود، والأمّة موجودة.
غاب عن خطاب نعيم قاسم أيّ بُعد إقليمي. لم ترِد عبارة «وحدة الساحات» في كلمته. لم يذكّر بمفهوم هذه «الوحدة»، وتجاهلها. قد يكون ذلك مفهوماً إذ أنّ «وحدة الساحات»، بعيداً عن خطابات العزّ والاعتزاز بالدماء وإدانة جرائم الاحتلال واغتيالاته، تحوّلت إلى وحدة الجنازات: هنية في طهران، السنوار في غزّة، نصر الله في الضاحية، ونظام الأسد في سوريا. ابتعد خطاب التأبين عن المشهد الإقليمي، وفي ذلك ترجمة لإنهاء الدور الإقليمي الذي أدّاه الحزب لأكثر من عقد، دور الرابط والضابط والمستشار في سوريا والعراق واليمن.
سنشارك في بناء الدولة القويّة والعادلة، ونُساهم في نهضتها على قاعدة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
طغى الانشغال المحليّ على كلمة قاسم، وتحوّل خطاب الانتصار، الذي كان يعني على مدى عقود انتصارات على الاحتلال في الجنوب وفلسطين وعلى «الاستكبار» في المنطقة، إلى خطاب إنجازات وانتصارات في الداخل، وليس بالضرورة على الداخل كما يتّهمه بعض خصومه. ألم يُفاجئكم انجاز الوفاق بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، وإسقاط دعاة الإقصاء، فكنّا جزءاً لا يتجزّأ نحن وحركة أمل في متن تركيبة البلد لقيادة البلد؟ ألم يحيّركم كيف تعاونّا لتسهيل ولادة الحكومة؟ بات حزب الله يجد انتصاراً في انتخاب رئيس لم يرشّحه وفي المشاركة بحكومة لم يتمثّل بها ولم يضمن فيها ثلثاً للتعطيل. وفي هذا تغيّر في شكل تعاطي حزب الله مع المكوّنات اللبنانية، وتعايش مع المتغيّرات حفاظاً على دوره في السلطة بعدما كان يحدّد بنفسه أسماء اللاعبين وأحجامهم.
لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.
استعاد نعيم قاسم في ختام خطاب التأبين هذه العبارة من السيّد موسى الصدر، العبارة التي دخلت مقدّمة الدستور بعد اتفاق الطائف. وألحقها قاسم بالتأكيد: ونحن من أبنائه. ومع التشييع، رسم أمين عام حزب الله خارطة عودته إلى الداخل. وحدّد عناوين هذه الرحلة بدءاً من الجنوب: مهمّة الدولة والجيش في إنهاء الاحتلال وإعادة الأسرى، وإعادة الإعمار، ثمّ إدارة الأزمة وتنفيذ الإصلاحات والإنقاذ.
يعود حزب الله إلى الداخل بعد عقدَين من المطالبات والمناشدات والشعارات التي تحدّثت عن «لبننة حزب الله». وتأتي هذه العودة مع تشييع رأى كثُر أنّه يشبه تشييعات أخرى رافقت انتهاء حقبات سياسية سابقة: كمال جنبلاط، بشير الجميّل، رفيق الحريري. قد تكون أوجه الشبه مع المحطّات الثلاثة كثيرة، لجهة سقوط الرمز والمشروع، لكنّ التشييع الأخير يشير إلى واقع أكثر تعقيداً من المشاهد السابقة، نظراً لاختلاط بنيات حزب الله الدينية والطائفية والأمنية والعسكرية وتداخلها، في لحظة يغصّ الإقليم بمشاريع توتّرات وتهجير وتقسيم.