طغى على مسار الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي خطاب الثنائيّات الضيّقة التي علينا الاختيار بينها، والتي تحاول إقناعنا بعدمية واستحالة الخيارات البديلة.
بدأت هذه الثنائيّات بتخيير اللبنانيّين بين تأمين القمح والدواء ودفع مستحقات الدَّين العام الخارجي. ثمّ تطوّرت إلى الخيار بين برنامج صندوق النقد الدولي أو الموت جوعاً على الطريقة الفنزويليّة. واستُكمِلت للتعهّد ببناء اقتصاد منتج بدلاً من الاقتصاد الريعي، وتحفيز القطاع الخاص النشيط على حساب تحجيم القطاع العام الكسول، والخصخصة كبديل عن الملكيّة العامّة. أما آخر هذه الثنائيّات، فهي خطة المصارف التي صدرت الأربعاء في وجه خطة الحكومة.
تستند خطة المصارف إلى توصيف الأزمة الراهنة كأزمة تخلُّفٍ عن سداد الدولة اللبنانية لمستحقاتها لصالح أحد دائنيها، القطاع المصرفي. وهذا التخلّف عن السداد هو السبب الرئيسي بل الوحيد للخسائر التي يمكن أن يُمنى بها القطاع المصرفي، ممّا سينعكس على الثلاثة ملايين مودع.
توحي هذه الرواية وكأنّ الدولة اقترضت من أحد المصارف في جزيرة نائية بفوائد معقولة، وها هي تستصعب دفع ديونها لأسباب خارجة عن إرادتها مثل الكورونا أو الثورة. ولن يدفع ثمن ذاك التعثّر إلا هذا المصرف المموِّل في تلك الجزيرة النائية.
فات الخطّةَ أنّ القطاع المصرفي والمصرف المركزي يحملان أكثر من 80٪ من مجمل الدَّيْن العام. وقد وظّفت المصارف، بحسب ما يرد في خطّتها، 110 مليار دولار من ودائع الناس في المصرف المركزي. لكنّها لا تتحدّث عن أيّ خسائر ناتجة عن تثبيت سعر الصرف، وخدمة الدَّيْن العام، والهندسات المالية. وهي خسائر تسبّبت بها منظومة واحدة متكاملة، يكاد يأكلنا الضجر من كثرة تسليط الضوء عليها.
انطلاقاً من هذا التوصيف، تحذّر الخطّة من التخلّف عن سداد الدَّين الداخلي، أي تطلب الحفاظ على 70٪ من مجمل الدَّيْن العام بحجة حماية المودعين. وليست صدفةً هنا أن تتحدّث الخطة عن مخاطر على ثلاثة ملايين مودع.
فالمصارف، إذ تدّعي حماية المودعين، إنّما تتّخذهم رهائن في معركتها لحماية مساهمي القطاع المصرفي وبضعة آلاف من كبار المودعين من الفاتورة الباهطة للأزمة.
ذلك أنّ الوصفة النصّية للتعامل مع الأزمات المصرفية في العالم تكمن في إعادة هيكلة المصارف عبر تحميل المساهمين الخسارة أوّلاً، ومن ثم كبار المودعين الذين يمكن أن يطالهم اقتطاع نسبة من ودائعهم.
لكن، ما هي الفكرة الخلاقة للقطاع المصرفي لوضع الدَّيْن السيادي على الطريق المستدام من دون المسّ بمستحقات المصارف من دين داخلي؟
تقتضي الخطّة شطب 40 مليار من ديون الدولة للمصرف المركزي (مجموع قيمة اليوروبوند وسندات الخزينة)، مقابل إنشاء صندوق بأصول الدولة من أملاك وقطاعات يستفيد من كامل أسهمها المصرف المركزي.
بمعنى آخر، تقتضي الخطة ليس فقط المحافظة على مستحقات الدين العام للمصرف المركزي والمصارف، بل الحفاظ على قيمتها بالدولار الأميركي، بلعبة ذكية تقوم على نقل بعض هذا الدين إلى أصول وممتلكات عامة بالدولار الأميركي، وتأمين مردود مستدام بالدولار من خلال إصدار الصندوق سندات دين بفوائد مقوّمة بالدولار.
فليس بتفصيل أنّ خطة المصارف تعرض جميع أرقامها بالدولار الأميركي، كمحاولة للحفاظ على قيمة الدين العام الذي تستحوذه بعد خسارة معظم قيمة سندات الخزينة بسبب انهيار الليرة.
لا تطلب المصارف، بذلك، إعفاءها من فاتورة الانهيار فحسب، بل تطلب أيضاً المحافظة على قيمة مستحقاتها بالدولار الأميركي وفق سعر الصرف القديم، وذلك من خلال عملية نهب موصوفة لأصول الدولة.
المهين في الخطة هو أنّه بعد استعمال المودعين كرهائن، وطرح حل لتحييد القطاع المصرفي عن الخسائر، لا يوجد في الخطة أي إشارة إلى إطار زمني لإعادة الودائع إلى اصحابها. فالبديهي أن الكابيتال كونترول سيبقى قائماً لفترة طويلة، ممّا يعني أنّ هذه الودائع ستبقى رهينة القطاع حتى بعد توحيد سعر الصرف. وما الخطة إلا محاولة لتأمين المزيد من الإيرادات للقطاع المصرفي والمصرف المركزي بالدولار الأميركي عبر وهبها ممتلكات وأصول الدولة.
بالعودة إلى الثنائيات الراهنة، نكتشف أنّ صياغة خطة المصارف كخطة بديلة في وجه خطة الحكومة، يتستّر على نقاط التوافق بين الخطتين. فالخطتان تلتقيان على وجوب اللجوء إلى برنامج صندوق النقد، والسياسات المالية التقشفية. كما تبني خطة المصارف على اقتراح خطة الحكومة إنشاء صندوق من أصول الدولة، لكنّها تطلب تحويل جميع إيرادات هذا الصندوق وأسهمه إلى القطاع المصرفي. أمّا الفقر والبطالة، فتكتفي الخطّتان بوصفهما بالـ«مؤشّرات الاجتماعية» التي قد تتفاقم، وينبغي محاربتها.
ليست إذاً معركة بين خطّتين، بل معركة تحميل أعباء هذه الأزمة إلى الجميع ما عدا المسؤولين عنها.