وإذن ما هو الطريق؟
وما هو دورنا على هذا الطريق؟
أمّا الطريق فهو الحريّة السياسيّة والاقتصاديّة.
وأمّا دورنا فيه فدور الحرّاس، فقط، لا يزيد ولا ينقص… الحرّاس لمدّة معيّنة بالذات موقوتة بأجل.
جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة.
28 أيلول يوم مشؤوم في تاريخ العروبة. انفصلت سوريا عن مصر في ذلك اليوم إثر انقلاب عسكري (1961). تفكّكت الجمهوريّة العربيّة المتحدّة بعد ثلاث سنوات فقط على قيامها. شكّل الانفصال أوّل هزيمة جديّة للقوميّة العربيّة. ما ضاعف من وطأتها الرمزيّة أنها لم تأتِ على أيدي الاستعمار. بعدها، أصبحت الشعارات القوميّة عن الأمّة العربيّة وشعبها الواحد عرضة للتشكيك أكثر. انتبه بعضُ من سحرَتْهم الدعوة القوميّة حينها، قبل أن يصدمهم الانفصال، إلى قصور الشعارات التي اختصرت الطريق إلى الوحدة بزوال الاستعمار، المسؤول عن تجزئة الوطن العربي. تبيّن أن المسألة أكثر تعقيداً من طرد المستعمِر، وأنّ المجتمعات أكثر تركيباً من شعارات الشعب العربي في سوريا ومصر ولبنان التي شدّدت على وجود شعب واحد منتشر في أقطار كثيرة. فيما بعد، ألقت هزيمة الجيوش العربيّة في حزيران 1967 بظلّها على الانفصال. تراجع إلى مرتبة حدث ثانوي أمام الهزيمة الخاطفة على أيدي جيش العدوّ التي كُرّست حدثاً- ملكاً عُلّقت على شمّاعته عناوين كثيرة من سقوط الأنظمة إلى فشل مشروع الحداثة العربيّة وتقليديّة الإنسان العربي.
لكنّ الانفصال بما هو حدث عربيّ داخليّ يبقى غنيّاً بالدلالات لتقصيّ إخفاقات التحرّر خارج أطر الصدمة الحضاريّة للهزيمة والجروح النرجسيّة للذات القوميّة المكسورة أمام العدوّ. إذ أظهر الانفصال بوضوح الفرق الشاسع ما بين زوال الاستعمار وبناء الوحدة. لا تتم عمليّة البناء أوتوماتيكيّاً ما إن تتخلّص حركات التحرّر الوطني من مصدر الظلم المشترك. بالأحرى يجب الانتباه إلى أن هناك عمليّة بناء يجب أن تحصل. كما يصحّ ذلك في مجالات أخرى غير الوحدة السياسيّة خاضتها أنظمة ما بعد الاستعمار. تمّ القضاء على الإقطاع الزراعي التقليدي وعلى رؤوس الأموال الخاصّة من خلالها تأميمها. إلّا أن ذلك لم ينتج تنمية واشتراكيّة. كما لم يُفضِ الكفاح المتواصل من أجل التخلّص من آثار الماضي البغيض وآثار الاستعمار، وهي ثيمات ناصريّة بامتياز، إلى بناء المستقبل الزاهر. لم ينتج التحرّرُ حريّة. أنشأ سلطة جديدة وطغاة جدداً ببزّات عسكريّة.
عندما توّفي عبد الناصر في ذلك اليوم أيضاً، بعد تسعة سنوات على الانفصال (1970)، كان قد أصبح واضحاً أنّ طريق الحريّة السياسيّة والاقتصاديّة قد انقطعت. وتحوّل العسكر من حارس الطريق المؤقّت، بحسب تعبير عبد الناصر، إلى قاطعها المؤبّد.
لكن من الظلم تحميل الفترة الناصريّة التي انتهت منذ نصف قرن المسؤولية المباشرة عن كلّ ما أتى من بعدها من إخفاقات وطغيان. فقد تغيّر العالم كثيراً في الخمسين سنة الأخيرة.
ماتت العروبة. لم يعد لشعاراتها القوميّة العربيّة أي صدى بعد الصحوة الإسلاميّة والانقسامات الأهليّة للمجتمعات العربية. يتحدّث أمين عام حزب الله اليوم عن تدخلّات حزبه في الإقليم. وهي كلمة محايدة لا تمتّ بصلة إلى الحمولة العقائدية للوطن العربي والأمّة.
هُجِرت فلسطين. لم تعد قضية العرب المركزيّة. تحوّل الصراع على مستوى الأنظمة من عربي- إسرائيلي إلى إيراني- إسرائيلي. تتالت اتفاقيّات السلام، ومؤخراً التطبيع العلني. لم تعد إسرائيل أثراً من آثار الاستعمار، كما نظر إليها عبد الناصر، تكبح تقدّم العرب. باتت حليفةً استراتيجيّة لأنظمة تسعى إلى مجابهة سياسات النظام الإيراني التوسّعيّة.
سقطت السيادة. لم تعد القوى الاستعماريّة الغربية تشكّل التهديد الحصريّ لاستقلال الدول العربيّة. باتت تتنازعه إسرائيل وإيران وتركيا إقليميّاً، والغرب وروسيا دوليّاً. نظر عبد الناصر إلى السياسة من باب مسرحي. تهيم الأدوار على مسرح التاريخ باحثةً عن أبطال تجسّدها، فتقع على أحدهم (عبد الناصر). يجسّدها فيدخل العرب إلى مسرح التاريخ من باب صناعة البطولات. أمّا الآن، فلا عرب ولا أدوار ولا بطولات. دول ممزقّة وأنظمة بالكاد تلعب أدواراً ثانويّة. اقتصادات تعتاش على المساعدات الخارجيّة ومكبّلة بالديون، وأخرى تتحضّر لعقد الصفقات التجاريّة مع إسرائيل. باختصار، لا تحرُّر ولا حريّة.
ليست فترة حكم عبد الناصر الخطيئة الأصليّة المسؤولة عن كلّ ما جاء بعدها. لكنّها ليست منزّهةً عما آلت إليه الأمور. بل أكثر من ذلك، تتحمّل مسؤوليّة كبيرة. باختصار، بإمكاننا القول إنّ شعارات عبد الناصر القوميّة وطموحاته الوحدويّة ذَوَتْ مع الوقت. أمّا بعض آليّات حكم نظامه وعمله، فاستمرّت وبرهنت على قدرة هائلة على التأقلم مع المتغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة.
التخوين والقمع. لم يخترع عبد الناصر التخوين. إلّا أنّه برع باستخدامه من أجل إسقاط الشرعيّة السياسيّة عن كلّ من عارضه. برّر ذلك قمع النظام الممنهج ونبذ الاختلاف السياسي والتعدّديّة بحجّة القضاء على أذناب الاستعمار والعملاء، أعداء الداخل. كما يعيد التخوين منح الذات الوكالة الحصريّة للتحدّث باسم الأمّة. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وأنا صوت المعركة والأمّة الأوحد، يقول المخوِّن.
عسكرة القضيّة الفلسطينيّة والسلطة. ترتّب على النظر إلى القضيّة الفلسطينيّة كهزيمة عسكريّة في الأساس، تُحَلّ بنصر عسكري، نتائج كثيرة، منها: إعلاء شأن الجيوش العربيّة سياسيّاً واقتصاديّاً ورمزيّاً. اقتطعت الجيوش حصص الأسد من الميزانيّات ونالت الامتيازات وطغت على الحياة السياسيّة. والأهمّ من ذلك، برّرت استيلاءها على السلطة وبقاءها فيها وإقصاء المواطنين عن العمل السياسي. فالجيوش، أكثر المؤسسات هرميّة، لا تخضع لأليات عمل الديموقراطيّة المبنية على المساواة بين المواطنين. كما أنّ التحضير السرّي للعمليّات العسكريّة لا يخضع بدوره لشروط الشفافيّة والتداول بين الناس. نفت عسكرة القضيّة الصفة السياسيّة عنها. أبعدتْها عن الناس ووضعتْها في أيدي طليعة مقاتلة غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة. لم يحد حزب الله عن عسكرة القضيّة وما يستتبع ذلك من تنصيب قيادة سريّة غير منتخبة، لا تخضع للمساءلة والمداولة، تمسك بزمام السلطة الفعليّة التي ليست بيد النوّاب، ممثلّي إرادة الناس.
برجوازيّة الدولة وشبكاتها. أنتجت التجربة الناصريّة برجوازيّة دولة نهمة سارعت إلى مراكمة الثروات. فلاحظ سمير أمين (حسن رياض)، الذي عمل في دوائر التخطيط للنظام الناصري في أواخر الخمسينيات، أن الفساد حينها لم يكن من آثار الماضي أو من علامات المراحل الاقتصاديّة الانتقاليّة. إنّما شكّل القاعدة الأساسيّة لعمل النظام وقانونه الموضوعي. فالماكينة الاقتصاديّة للنظام، أشار أمين، لا تتبع قوانين السوق الاقتصاديّة كالمنافسة، والربح. بل تسيّرها شهيّة أركان النظام وقدرتهم على إنشاء شبكات زبائنيّة. إضافةً إلى امتيازاتهم القانونيّة، راكم العسكر الثروات من خلال السطو على قطاعات من بيروقراطيّة الدولة وتمكين حاشيتهم من الأقرباء والأصدقاء في إدارتها. كما نشأت سوق سوداء تباع فيها مواد أساسيّة كالوقود المخصّص للدولة وبضائع التعاونيّات. باختصار، غزت المصالح الخاصّة المتضاربة وشبكاتها المؤسسات العامّة وتقاسمتها. لم تتبدّل الأحوال بعدما اتجّهت الأنظمة نحو اقتصاد السوق وسياسات الخصخصة. على العكس من ذلك، وسّعت المساحات المتاحة لاستيلاء النظام وحاشيته وازداد تراكم الثروات على حساب المصلحة العامّة.
الأب- الزعيم والأبناء- المواطنون. كثيراً ما يجري الإصرار على وضع عبد الناصر على حدة عند تناول طغاة الأنظمة المعادية للاستعمار. مما لا شكّ فيه أنّه الأب- القائد الأصلي الذي لم يستطع لا حافظ الأسد ولا القذافي ولا صدّام حسين أن يقتربوا من قدرته على التسلّل إلى قلوب الناس. لم يملكوا لا سحره ولا ملكة الخطابة لديه التي جعلت الناس تشعر بأنها استعادة كراماتها. بعد وفاته، ودّعت الجماهير الميتّمة أباها وحبيبها بالملايين. وغالباً ما تُذكَر جنازة عبد الناصر الشعبيّة والمهيبة للدلالة على موقعه الخاص. لكنّها نقطة تُحسَب لصالحه فقط إذا قارنّاها بزملائه الطغاة. فالشعور باليتم بعد وفاته هو دليل إضافي على إفراغه الحياة السياسيّة من حيويّتها ونزاع المصالح، من خلال تنصيب نفسه أباً راعياً لشعب قاصر، أهداه كرامته بوجه الاستعمار بيد، وسحب منه استقلاليته وقدرته على العمل السياسي باليد الأخرى. استخدم سحره وخطابته للتواصل الأبوي المباشر مع قلوب أبنائه وبناته عبر الإذاعة والتلفزيون، بينما أفلت أجهزته في الحارات للتأكد من عدم خروجهم من بيت الطاعة. وملأ الزنازين بالذين تجرّأوا على الخروج.
في نهاية الجزء الأوّل من فلسفة الثورة، يطرح عبد الناصر فكرة مفادها بأن الجيش لم يحدّد الدور الذي لعبه. بل على العكس، الحوادث نفسها هي التي رسمت للجيش الدور الذي سيلعبه في عمليّة التحرير. بغضّ النظر إن أقنعنا تبريره لاستيلاء الجيش على السلطة، يطرح عبد الناصر أنّ المرحلة تطلّبت قوّةً نابعة من الشعب، بعيدة عن صراع الأفراد والطبقات، ويثق أعضاؤها ببعضهم بعضاً. بالإضافة إلى ذلك، عليها أن تملك عناصر القوّة التي تكفل لها القدرة على العمل السريع والحاسم.
بكلام آخر، يقدّم عبد الناصر جواباً على سؤال: من هو الفاعل الأنسب والقادر على القيام بمهام التحرير والتنمية والتحديث؟
فشلت الأنظمة العسكريّة بتلك المهامّ. أظهرت الانقلابات المتتالية وصراعات أجنحتها الارتياب الدائم لأركانها. ما لبث أعضاؤها الخارجون من الشعب أن وصلوا إلى السلطة حتّى تهافتوا إلى مراكمة الثروات وإعلان انفصالهم عن منابتهم الشعبية. أمّا قوّة العمل السريع للأنظمة العسكريّة، فوُضِعت في خدمة قمع الناس وقتلهم لبقاء من على رأسها في السلطة. مع الوقت، تركت المقايضة الأولى التي أجرتها مع شعوبها: كرامة وطنيّة زائد وعداً بالتنمية مقابل الحريّة السياسيّة. ولم يبقَ من تلك المقايضة إلّا السلطة من أجل السلطة.
لكنّ السؤال الذي طرحه عبد الناصر عن القوّة السياسيّة التي تملك في آن واحد صفة تمثيليّة وقدرة على الفعل ما زال راهناً. محاولة الجواب عليه الآن تمرّ بإعادة التفكير بالمسألة التنظيميّة من خلال ربط ممارسات الحريّة داخل التنظيم بأهداف التحرّر خارجه. دون ذلك نتأرجح بين ثلاثة خيارات: إمّا تمثيل وفعل لكن دون مساءلة، أو قدرة على الفعل دون تمثيل، أو صفة تمثيلية دون فعل.