رغم أنّ مصر كجمهورية كانت احتكارًا لرؤساء من العسكريين السابقين، لم تشكّل «عسكرة» المجتمع مشروعًا سياسيًا من قبل. لكنّ صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدءاً من العام 2014، محا الخطّ الفاصل بين اللون الكاكي وألوان الطيف المدنية.
من العسكر إلى العسكرة
حتّى نفهم مفهوم «العسكرة»، علينا أن نفهم الفارق الجوهري بين شخص السيسي وأسلافه.
يرى الباحث نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية» أنّ بروز فئة من الحكام العسكريين في مصر (جمال عبد الناصر، أنور السادات) في أعقاب ثورة يوليو 1952 كان نتاجًا لمزيج بين التطورات المهنية الصرفة للعسكر من جهة، وحالة عامّة من الاستعصاء الاجتماعي والسياسي، من جهة أخرى. كان الضباط الأحرار بالأساس ذوي رتب وسطى، ينحدرون في معظمهم من خلفية الطبقة الوسطى، ويتحرّكون بصفتهم رأس الحربة لبرجوازية وطنية ناشئة كان صعودها الاجتماعي معطَّلًا بفعل فساد النظام السابق. وبصعودهم إلى السلطة، اعتمدوا بشكل كبير على البيروقراطية العامة لجهاز الدولة وعلى قاعدة شعبوية من الدعم الذي كان وجوده منوطًا بإقامة الصناعة الحديثة وتقديم الرفاه الاجتماعي، وخطاب التحرّر الوطني، وارتفاع مكانة البلاد على المستوى الدولي.
يلاحظ الأيوبي أن نظام حكم عبد الناصر كان فيه مركزان للقوة، واحد على مستوى قمة الدولة يمثله الرئيس عبد الناصر ودائرة نفوذه الرئيسية (الإدارة المدنية والجماهير)، والثاني يمثّله المشير عامر الذي كان ميدان نفوذه الرئيسي القوات المسلحة وشبكة من التنظيمات والفعاليات الملحقة بها. لكن رغم ذلك، اعطى عبد الناصر ثلث المناصب العليا السياسية إلى ضباط سابقين. لكنّ هذا الأمر بدأ بالانحسار بعد هزيمة 1967. أما السادات، فحاول أن يقلّص الدور السياسي للعسكر من خلال تعيين وزراء مدنيين في مجلس الوزراء المصري، ومن خلال إقصاء العسكر من موقعهم. وكان يحاول، بتلك المناورة، أن يتخلص من النفوذ الناصري داخل نظامه ويخط طريقًا جديدًا.
أما مبارك، فكان يمتلك بيروقراطية مدنية آخذة في الاتساع، إلى جانب دور القوات المسلحة المصرية. لكن في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، بدا وكأن الدولة في طريقها بالكامل إلى أن تتجهّز لحكم «مدني» خالص من خلال توريث مبارك الحكم لابنه جمال الذي كان قد احتل المشهد السياسي مع شلّته من رجال أعمال القطاع الخاص ونفوذهم في «الحزب الوطني الديمقراطي». في تلك الفترة، لم يكن الجيش المصري قوّةً مقموعةً أو ضعيفة، لكنها كانت قوة مُكتفية باقتصادها العسكري الموازي للدولة والمجمع الصناعي العسكري وميزانية الإنفاق على القوات المسلحة وأموال المعونة الأميركية بسبب معاهدة السلام مع إسرائيل، ولم تنشغل بالإدارة السياسية المباشرة للبلاد.
في أثناء كتابة الأيوبي لكتابه عام 1991، سجّل ملاحظة مُدهشة تحمل نبوءة حين قال:
إذا قُدِّر لانتفاضة شعبية ذات لون إسلامي أن تحدث نتيجة للمصاعب الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، فإن احتمال حصول تدخّل عسكري سيكون كبيرًا، وقد يعيد مثل هذا التدخّل السلطة إلى الحكومة المدنية كما حصل في 1977 (انتفاضة الخبز) و1986 (انتفاضة الأمن المركزي). غير أن هناك احتمالين آخرين لا يمكن استبعادهما، الأول أن القيادة العليا قد تتولى السلطة بذريعة استعادة القانون والنظام، أو يمكن أن تعقد صفقة بين أطراف من العسكر وأطراف من الحركة الإسلامية لإدارة البلاد بصورة مشتركة. ومع أن هذا التطور ذو دلالة كبيرة يمكن له في نهاية الأمر أن يُحدِث تغييرات سياسيّة واستراتيجية هامّة، فإن المواقف الحالية السائدة في صفوف القيادة العليا والمراتب الوسطى تشير إلى وجود احتمال ضئيل بحصول تدخل مباشر، ولا ريب في أن انتفاضة ذات توجه إسلاميّ، قد تثمر نتائج أخرى مختلفة.
تحققت نبوءة الأيوبي عام 2012 حين حكم محمد مرسي مصر، وتحقق السيناريو الأول باختيار القيادة العسكرية أن تحكم البلد بصفة مباشرة، وتحقّق أطماعها الإقتصادية بعدما شعر اقتصاد القوات المسلحة بالتهديد من رجال أعمال القطاع الخاص من أصدقاء جمال مبارك في السنوات الأخيرة قبل ثورة يناير 2011. لقد جاء العسكر إلى السلطة في مصر بصورة جديدة عام 2014، صورة تحمل طابعًا عسكريًا تامًا، وبرنامجًا شاملًا للمشهد المصري كله، في الاقتصاد والسياسة والإعلام وحتى إعادة هندسة المجتمع من جديد.
«ميس» الفن والرياضة
ثمّة كلمة موروثة من الميري البريطاني في مصر (Mess Hall)، وتمّ تمصيرها لتصبح «ميس»، وهي ترمز في الحياة اليوميّة في الجيش المصري إلى المكان الذي يتجمّع فيه العساكر لأكل وجباتهم اليومية الثلاثة. وتشبه الآن حال الفن والرياضة في مصر، حيث ينتظر المصريون خارج الحياة العسكرية يوميًا حصّتهم من الوطنية التي سيصرفها عليهم «الميس».
في عام 2017، قرّر رئيس اتحاد الكرة المصري هاني أبو ريدة إدخال قانون مُلزم بعزف النشيد الوطني المصري قبل أي مباراة، سواء في بطولة الدوري أو بطولة الكأس، بعد أن كان المتعارف عليه هو عزف النشيد في مباريات منتخب مصر. وقد برّر أبو ريدة هذا القرار قائلًا: النشيد الوطني من شأنه أن يعزّز قِيَم الانتماء للوطن، وهو أمر هامّ بالنسبة للأجيال القادمة، ومصر ليست أقلّ من دول يُعزَف فيها النشيد الوطني قبل مباريات الدوري. لقد كان ذلك صيْحةً جديدة من صيْحات العسكرة وجرعات الوطنية التي يتشرّبها المصريون قسرًا كلما حانت فرصة لذلك. كما أنه كان امتدادًا هزليًا لمشروع قانون عرفته مصر للمرّة الأولى في تاريخها عام 2014، يُسمّى «حماية العلم والنشيد والسلام الوطني»، والذي يعاقب كل من يمزح بشأن تلك المراسم الوطنية أو يتجاهلها، بالحبس لمدة عام، مع غرامة ثلاثين ألف جنيه.
وفي العام 2017 نفسه، كانت الشركة المتّحدة للخدمات الإعلاميّة- المملوكة لأجهزة سيادية- قد بدأت في غزو المشهد الإعلامي المصري. تكفي نظرة سريعة على الموقع الرسمي للشركة وعلى القنوات التي تملكها من راديو أو تلفزيون لتظهر سيطرتها على المشهد الإعلامي المصري كاملًا، بما فيه القنوات الرياضية، بالإضافة إلى خدماتها الإنتاجية من شركات «ميديا هب» و«سينرجي» التي تسيطر على الصناعة السينمائية والدرامية بشكل كلي تقريبًا.
لقد قدّمت «المتّحدة» منذ العام 2017 أفلامًا ومسلسلات إذاعية وتلفزيونية ووثائقيات ورسوماً متحرّكة تمجّد «الضابط» المصري، أبرزها مهزلة مسلسل «الاختيار» بأجزائه الثلاثة. ركّز الإنتاج في أغلبه على صورة الضابط، أكثر من صورة الجندي التي كانت تميّز الأفلام الدعائية في العهود السابقة. كما اختفت صورة ضابط الشرطة التي كان متعارفاً عليها، والتي كان يظهر فيها كفاسد أو مرتشٍ أو بشكلٍ هزليّ تمامًا. صودِرَت كلّ هذه الصور من الشاشة لأنها لا تليق بصورة الجهاز الذي يكافح الإرهاب ويحمي الأمن. وقد أنفقت «المتّحدة» مليارات الجنيهات بشكل خزعبلي من أجل تعزيز صورة الضابط. يكفي أن نعرف أنّ قيمة تكلفة الجزء الثالث من مسلسل «الاختيار» قد فاقت 90 مليون جنيه، وفقًا للأرقام المعلنة في جريدة حكومية رسمية.
تُسجَّل أيضًا العودة لمحاكمة صورة الضابط لدى المجتمع في الماضي، كما حدث في فيلم «الممر 2019» الذي يناقش صورة الضباط المصريين بعد الهزيمة في حرب الستة أيام (1967)، وكيف أنهم كانوا موضوعًا للاستهزاء والسخرية، وكيف أن ذلك كان خطأً لا يجوز للمجتمع أن يقع فيه مرّةً أخرى. كذلك تتميز عسكرة السينما والدراما في العهد الحالي بتجييش نجوم المشهد السينمائي ليتناوبوا- بالأمر- على أدوار الضباط من فيلم لمسلسل لكليب دعائي، بينما كانت تلك الأفلام الوطنية في الماضي، والتي لم تكن تُنافس في شباك التذاكر من الأساس، أفلامًا يهرب منها نجوم السينما الرئيسيون.
تُعطينا حالة الفنان أمير كرارة صورةً معبِّرة وموجزة، ذلك الممثل الذي لم يكن ليذكره أحد بالخير أو بالشر، تناسبت بالصدفة بنيته الجسدية وملامحه مع الصورة التي تريد الدولة تكوينها عن الضابط، ليصبح بين ليلة وضحاها نجمًا ذا صدى في الذهنية العامة، حيث انتهى أمير كرارة لتولد بطولات «سليم باشا الأنصاري» في مسلسل «كلبش» (2017-2018)، ثمّ «أحمد المنسي» (شخصية حقيقية) في مسلسل «الاختيار» (2020)، ليصبح أمير كرارة «جيمس بوند» المتّحدة للخدمات الإعلامية والإنتاج الفني في عهد السيسي.
الدولة والخوف من «الكرش»
لعلّ إحدى سمات الحياة العسكرية، هي الحالة البدنية للمقاتل من خلال الجري يوميًا وما يعرف بطابور اللياقة. قدّم الرئيس نفسه في صورة الرياضي الذي يجوب مشاريع الدولة راكبًا العجلة دائمًا، وذلك قبل أن يقرّر فرض «طابور اللياقة» على التوظيف الحكومي.
المفارقة أننا دومًا ما نتعامل مع هزل السيسي على أنه هزل، رغم أن كل القرارات الجدية نبعت من هزله في الأساس. في عام 2018، خرج الرئيس في أحد مؤتمراته لينتقد الشعب المصري من الناحية البدنية، حيث عاب على الشعب بدانته، وأن 25% فقط من المصريين هم في حالة جسمانية صحية. كما وجّه في غير مناسبة المدارس كي تهتم بحصة التربية البدنية، بغضّ النظر عن الإفقار الذي ترعاه حكومته ونمط غذائه الذي يسبب البدانة. إلّا أن الرئيس كان جادّاً، أكثر من مزح المصريين على ذلك الخطاب والذي تفاعل معه الرئيس شخصيًا، حيث كان غاضبًا من اتهامه بأنه «يُعاير» شعبه، فتبيّن أنّ الأمر كان مقدّمة لنظام جديد سيُتَّبع في التوظيف الحكومي. فقد بات أحد شروط التعيين في وزارة التربية والتعليم والقضاء وسكة الحديد والنقل والضرائب وإمامة المساجد في عهد الجمهورية الجديدة، هو الخضوع لامتحانات تختبر فيها «الكلية الحربية» المتقدّمين لتلك الوظيفة «المدنية».
في عام 2022، وبشكل طبيعي، تقدم المعلمون إلى مسابقات وزارة التربية والتعليم لشغر العجز المُقدر بـ500 ألف معلّم. وبعد اجتياز عدد من الاختبارات، فوجئ المتقدّمون بأنّ عليهم اجتياز اختبارات دورة أخرى في مقرّ «الكلية الحربية». تشمل تلك الاختبارات كشف الهيئة والكشف الطبي والركض مسافة 150 متر في أقل من 30 ثانية. كما وُضِع نظام جديد للترقية في المدارس يشمل اجتياز دورة مدّتها ستة أشهر في «الكلية الحربية». وبناء عليه، استُبعِد عدد كبير منهم، بالإضافة إلى الاستبعاد السياسي والأمني الذي يحدَّد بناء على النشاط السياسي للمتقدّم أو لفرد من عائلته من صلات القرابة التي تصل إلى الخؤولة والعمومة. أسفر ذلك عن اعتصام فريد من نوعه في «عاصمة السيسي الإدارية الجديدة» أمام مقر وزارة التربية والتعليم، انتهى به الحال إلى الفضّ والاعتقال والإخفاء لبعض المعتصمين بطبيعة الحال.
وفي نيسان/ أبريل 2023، أقرّ مجلس الوزراء بقصر التعيين في الوظائف الحكومية على الحاصلين على دورة تأهيل من الكلية الحربية. مهّد ذلك القرار لخلط الحابل بالنابل، حيث تمّ في أيلول/ سبتمبر 2023 تخريج أول دفعة من أئمة المساجد بعد اجتيازهم دورة الكلية الحربية. تبدو تلك الدورة عبثًا حينما تتعدى كونها دورة بدنية إلى دورة فكرية. فأئمة المساجد بالتحديد تقيّدهم الحكومات منذ القدم بخطب الجمعة التي تأتي من وزارة الأوقاف أصلًا، مكتوبةً ومُعَدّةً مسبقًا ومتوافقةً مع الأحداث وسيل الدعاء لوليّ الأمر. لكن يبدو أنّ هذا لا يكفي. فعلى حد تعبير مدير كلية ضبّاط الاحتياط الذي عقد الدورة، فإن فائدة تلك الدورة هي تحصين الأجيال القادمة من الفكر الهدّام الإرهابي المتطرف. وأكّد وزير الأوقاف أنّ هدف تلك الدورات تدريب الأئمّة وتقديم دراية شاملة لهم بتطورات الفكر الديني ومناهج الدعوة المختلفة. وهنا يأتي السؤال: كيف يتأتى لهم أن يحصلوا على كل تلك القيّم والأفكار المدّعاة من مؤسّسة تختصّ بعلوم الحرب، والهندسة والطبّ في أبسط الأحوال؟
يتساوق نهج السيسي في العسكرة مع تصريحاته، وهو الذي لا يكفّ عن احتقار الدولة المصرية ومؤسساتها ما قبل العسكرية، ويعتبرها «شبه دولة». وفي سياق آخر، يقول عن الدولة أنا لقيتهم بيقولولي خد دي.. والله أنا مالقيتش دولة. في مقابل ذلك، تأتي تصريحاته كلها عن الجيش بأنّه ثقل المنطقة والمؤسسة الراسخة القانونية الوحيدة في مصر. يرى يزيد صايغ في كتابه «أولياء الجمهورية» أنّ تصريحات السيسي تقدّم منطقًا واضحًا مفاده أنّ القوات المسلّحة وحدها قادرة أن تكون الطليعة لتعويض العجز للحكومة ووزارتها وإنفاذ دولة المؤسسات والقوانين التي يحلم بها الرئيس. لذلك، فإنه يعتمد عليها بالكامل في الاقتصاد، ومؤخرًا، انتقلت عدوى عسكرة الاقتصاد إلى عسكرة المجتمع والوظائف واللعب والتمثيل.
كان لزامًا على العساكر والضباط في الخدمة العسكرية، وحتى الذين ليست لديهم خدمة في هذا اليوم، أن ينصرفوا إلى عنابرهم من أجل المبيت في الساعة 10 مساءً من كل يوم. في عام 2024، أقرّت الحكومة المصرية قرارًا بغلق المحالّ الساعة العاشرة مساءً. فعندما كنّا نجلس في «الكافتيريا» لنشاهد مباراة أو فيلماً، تُقطَع الكهرباء على الساعة العاشرة ويُطفأ التلفاز، إلا إذا كان هناك حدث وطني للمنتخب الوطني. لا يُساءَل القانون الميري، إنما خُلق ليطاع، وإلا فقدَ قيمته النافذة على رقاب العساكر. لذلك، كنّا نعلم، نحن العساكر، قيمة أن تكون في الحياة المدنية. فمهما كان بطش الدولة في الخارج، وانهيارها الاقتصادي، ففي منزلك أنت حرّ في أن تتحكّم بمواعيد إطفاء التلفاز واختيار الفيلم أو المباراة التي ستشاهد. إنه هامش من الحرية، ظلّ مُحدِّداً للعقد الاجتماعي في مصر بين السلطة العسكرية الحاكمة والشعب المحكوم. كان ذلك قبل أن يتلوّن كلّ شيء باللون الكاكي الأغبر الكئيب.