يومٌ أسود في تاريخ الجامعة الأميركية: مئات الموظّفين يُطرَدون تعسفيًا من عملهم، ويعامَلون كخارجين عن القانون رغم سنوات عملهم في هذه المؤسّسة. تحطّمت حياتهم في ثوانٍ، ولم يُعطوا أكثر من بضع دقائق لإخلاء المباني. جرى رميهم في الشارع تحت مراقبة قوى أمنية استُدعيت لتحمي هذا القرار المخزي، وكلّ ذلك في ظلّ سكوت مُهين لإدارة الجامعة.
لا خيار لنا، ردّد البعض. لا خيار لنا إلّا طرد الموظّفين، لا خيار لنا إلّا عسكرة الجامعة، لا خيار لنا إلّا إسكات المعترضين.
ما من شكّ أنّ الجامعة، كسائر المؤسّسات في هذه البلاد، تمرّ بأصعب مراحلها، جرّاء الأزمة المالية والاقتصادية. بيد أنّ الانهيار جاء بعد سنوات من سوء إدارة المستشفى، ما جعل تلك المؤسّسة عرضةً لأزمة كهذه. فقبل الاستسهال بطرد المئات، ربّما كان من الأجدى أن تقوم إدارة الجامعة بمحاسبةٍ شفّافة لتلك المرحلة وللسياسات التي أوصلتها إلى هذا القعر، وذلك لتحافظ الجامعة على شيء من رسالتها.
لكن بدلاً من ذلك، لا خيار لنا، ردّد البعض. لا خيار إلّا طردهم بسرعة وقساوة، ولا خيار إلّا معاملة المسؤولين عن هذه الأزمة بلطافة ولياقة.
إذاً، لا خيار لنا إلّا الطرد. كما أنّ لا خيار أمامنا إلّا الامتثال لسياسات الدول المانحة وتحويل الجامعة إلى مشهد في الحملات الدعائية لتلك الدول. كما أنّ لا خيار أمامنا إلّا التوظيف المتزايد للإداريين على حساب الجسم التعليمي. كما أن لا خيار أمامنا إلّا تحويل المناهج للتأقلم مع الواقع الجديد، حتى ولو كان ذلك على حساب جودة التعليم. كما أن لا خيار أمامنا إلّا بالابتعاد عن الشفافية واتباع سياسة فوقية لمواجهة الاعتراض الداخلي.
لا خيار لنا، ردّد المسؤولون وهم ينظرون إلى الجيش يدخل حرم الجامعة.
بيد أنّ اللاخيار هو خيار مَن قرّر فرض تصوّر مختلف للجامعة ودورها التربوي والثقافي. هو خيار من فهم أن الأزمة فرصةٌ لفرض ما لم يكن ممكناً فرضه في أوضاع طبيعية. هو خيار من قرّر أنّ على الجامعة أن تصبح أقرب إلى شركة تُدار حسب معايير السوق. اللاخيار هو خيار من يدرك أنّ هناك خيارات أخرى ولكنّه رفض الاستماع لها، فوجد نفسه يتّصل بالجيش لطرد موظّفيه. اللاخيار هو غطاء لمشروعٍ يُدرك أنّ ليس له مبرّر للوجود إلّا اللاخيار.
وعندما يسقط اللاخيار كحجّة، يبدأ الابتزاز كتهديد: الجامعة في وجه حزب الله، الجامعة في وجه أبله الحكومة، الجامعة كآخر قلعة تنوير في المشرق العربي... بيد أنّ هذا الابتزاز هو الذي أوصلنا اليوم إلى ما نحن عليه، إلى هذه الحالة من العقم النقدي. فإذا كان هناك لاخيارٌ اليوم، فهو لاخيار التضامن والمواجهة والتمسّك بالجامعة في وجه الأزمة ومصلحيها وأعدائها. فما سنتذكره بعد سنوات لن يكون الأزمة ولا الحملات الإعلامية التي أحاطت بها، بل طريقة التعامل مع الأزمة ونوع المؤسّسة التي سننجح بإنقاذها من هذا الانهيار. فالجامعة لا تواجه اليوم خطر الأزمة فحسب، بل أيضاً خطر سياسات التعاطي مع الأزمة.
إن كان هناك من رسالة اليوم للجامعة الأميركية، فهي ليست في ترداد الترّهات حول دورها الحضاري وتاريخها العريق ومبانيها الجميلة، بل في إرساء نموذج مختلف للتعاطي مع هذه الأزمة، تسوده قيم التعاضد والتضامن والعدالة. لكن بدل أن تفتح الجامعة أفقاً مختلفاً لمواجهة هذه الأزمة، قرّرت إدارتها أن تتبنّى حلولاً غير عادلة تحت حماية العسكر، لتقول لسائر المؤسّسات: أطردوا من شئتُم واتّصلوا بالجيش، فلا حل إلّا بعسكرة الانهيار. لكن حين يصبح من الطبيعيّ أن يرسَل الجيش ضدّ الموظفين المصروفين داخل مؤسسة تربوية، فما الذي نكون قد أنقذناه من الانهيار؟