10 تشرين الأول 2024
أبقى مستيقظاً عندما تنام بيروت. أشاهد وأتذكّر وينكسر قلبي بهدوء. من دون أن يراني أحد. أسترق النظر إلى طفولتي عبر ثقوب صغيرة تمتد من الليل إلى الركام. هناك، على الشرفة المتهالكة التي امتلأت بالشظايا الحادة والزجاج المسنّن والمنثور فوق حياتنا البريئة. عندما ينام الجميع، أتفرّغ للنظر إلى العتمة والتفكير والتذكّر. أودّع حياةً كاملة. ليس الأمر سهلاً كما يبدو. لا يمكن غضّ النظر عن حياةٍ كاملة. لا يمكن تغيير المشهد بالريموت كونترول. ولا يكفي أن أضع الهاتف جانباً لكي أنسى. إنّها حياتي التي تحت الركام. ولا أعرف كيف يغادر أيّ أحد، إلى أيّ مكان، من دون حياته.
25 تشرين الأول 2024
الذاكرة ترف لا نملكه خلال الحرب. وهي أحياناً كل ما نملك. شيء يشبه الحياة نفسها. عندما قصفوا الباشورة، كنت بالكاد قد أغلقت عيني. بعد السأم من الأخبار العاجلة ومن محلّلي المحطات الذين يشبهون روبوتات متعفنة. بعد يوم حزن عادي. وفجأة ارتجت النافذة فوق رأسي. بدا لي أنها قذائف تنفلش. عنقودية، سمعت صوتاً يأتي من تحت. صوت يأتي من النوم ومن اليقظة في وقتٍ واحد. اعتقدت أنّ هذا هو ما يسمّى بالعالم الآخر. لم أكن متأكداً أين أو كيف. لكن النصف المستيقظ كان يدفعني للفهم بأنّ صاروخاً سقط في مكانٍ قريب. أما النصف المنهك والنائم فدفعني للاعتقاد بأنّي في البرزخ. ولم أكن راغباً بتصديق أيّ من الأمرين. حتى أنّي عندما نهضت وفهمت أنّ الضربة وقعت في الحيّ الخلفي، لم أرغب بالتعليق أو حتى بالتصديق. اكتفيت بإضافة الحزن إلى الحزن، الطرق المبتورة إلى المدينة المقطوعة، والشرفات المحطمة إلى الشوارع التي صارت تجمعاً للغبار والوسائد المذابة.
الباشورة خلف منزلي، المريجة خلف طفولتي
الصاروخ يضعك في البرزخ قبل أن ينفجر. وعندما قصفوا البسطة، تابعت صوت الصاروخ وهو يثقب السماء. تلك الثواني القليلة التي لا تكفي. شعرت بحرارةٍ هائلة تلسع جلدي. حريق وربما أفعى. لم يكن صوت الانفجار قوياً لكن صوت الصاروخ نفسه وهو يخترق الهواء متّجهاً إلى هدفه كان واضحاً. بعد دقيقتين ثمة قلب سينكسر. لا نملك الوقت لكي نتفلسف في الفيزياء، ونحدد إن كانت الصواريخ تتجه نحو وجوهنا، أم أنّها، ببساطة، تتجه نحو وجوه آخرين. انتهى الصوت وأعقبه صمت، يبدو أنّه كان مخصَّصاً لالتقاط الأنفاس التي سقطت على الأرض. ليست شرفتنا وغرفة نومنا هذه المرّة. وهنا، يمكنني أن آخذ وقتاً لأقف. وربما أستطيع استعادة بعض الصور. متغبشة وألوانها باهتة. صور تزحف من التسعينيات، صفارات الإنذار الوحيدة التي نملكها.
قضيت أعوامي العشر الأولى في الغبيري. كان منزلاً كئيباً في الطابق الأرضي يلاصق بورةً مهجورة. إذا أردت أن أكون طفلاً صادقاً، يمكنني القول منزل أشباح. مع ذلك كانت الأشباح محايدة أحياناً. وكان البيت محاطاً بعدّة مباني، ما جعله يبدو أشبه بملجأ. خلال الحرب الأهلية كان القصف مختلفاً. تأتي القذائف القاتلة من مدافع الاخوة وليس من الطائرات المسعورة. وهذا ما كان يجعل الطوابق الأرضية أكثر أمناً. وليس مفيداً التذكير بأنّه لم يعد يوجد مكان واحد آمن في لبنان اليوم، حتى السنتيمترات القليلة التي كان جورج أورويل في زمانه يهذي مطالباً بها. في الغبيري أذكر صخباً عائلياً أوسع من قدرتي على تخيّله اليوم. الكثير من اللاجئين والقادمين من القريتين. أذكر أبو عصام، الذي استأجرنا منه المنزل، بقبّعته الإنكليزية المدورة التي كان يعتمرها دائماً حتى فوق بروتال أبيض بلا كمّين. أسمعه الآن وهو يزمجر بصوته الأجشّ بينما يتجوّل قرب خزانات المياه شاتماً المستأجرين، ونحن منهم طبعاً. وأذكر من الجيران صفاء وأثوابها المزركشة وامرأة أخرى أحفظ ملامحها، لكني نسيت اسمها. ربما ناديا. وكان هناك رجل بشاربٍ كثيف يدعى «الشقّور» يحرس الناصية متغزِّلاً بالسأم والعطالة. رغم الحرب أذكر ابتسامات مختلفة على وجه كل أحد منهم، أذكر الحيّ الذي يحاول مغادرة نفسه إلى حيّ آخر، يحاول الخروج بأي طريقة من لباس الميليشيات واسمها وكسمها.
من هذا المنزل، كنت أنطلق يومياً في السابعة صباحاً بصحبة أخي الأوسط، إلى ليسيه أميكال مودرن. ما زلت أحفظ الطريق غيباً، من الزاروب باتجاه رأس الشارع، مروراً بالمطبعة، ثم الانعطاف إلى اليمين، وصولاً إلى الزاروب الذي كانت تقع فيه «تكميلية حسن كامل الصباح». وبعد ذلك مدرستنا الصغيرة. أذكر طعم البرد في كانون الثاني، والطرقات التي شاهدت ما يشبهها لاحقاً في أفلام عن الحرب. لكني لم أكن أعرف ما هي الحرب. ليس فقط البحص والنتوء في المباني والجرحى والذين ينتظرون النهاية. أعرف الوصول في ذاكرتي إلى كل ما قصفته الطائرات المسعورة. طريقٌ بلا نهاية ولا بداية، أمشي فيها في خيالي، ولا أعرف كيف خرجت منها، فذلك حدث نسبياً قبل وقت بعيد. السندريلا، مركز التعاون حيث كنّا نشتري البقالة أحياناً، ونادي السلطان، حيث تعلمت السباحة. من الجهة الأخرى، أتذكّر المتاجر والمحال، من دون أي مواقف سياسية ضخمة. ذاكرة بيضاء ومسالمة لطفلٍ تستهويه لافتة «كوداك» ويسأل «ما هذا»، أو يعرف مفترق المنزل بمجرد الوصول إلى أفران قلقاس. ورغم انقطاعي عن هذا المكان إلى فترةٍ تمتدّ لأكثر من عشرين عاماً، عرفت من أصدقاء أنّ الفرن ما زال موجوداً. أما الأشياء الأخرى، فربما اختفت، وحلّت مكانها متاجر أخرى تدور حولها قصص جديدة لأشخاص جدد. هناك، في شوارع أعرفها، أمامها وخلفها وحولها، سقطت الصواريخ المشبعة بشيء يشبه اليورانيوم. ولم أتجرّأ وأسأل أين هطلت بالضبط، وأي الشوارع اختفت، لكي يمكنني متابعة الادعاء بأنّي لم أعرف.
قبل شهرين كنت أعتقد أنّ تلك الأمكنة صارت من الماضي. مع ذلك، أعادني الركام إلى السنوات التي تحت. إلى طفولتي. المريجة حيث الملعب، أمتار فقط بعد المنزل. والملعب كان اسمه: ملعب مارون الراس. لا أبالغ ولا أخترع. أتحدث عن أكثر من عشرين عاماً خلت، الملعب الرملي والمرمى الخالي من الشِباك. محض مصادفة مربكة لشخص يخشى المصادفات وترعبه القداسة والرمزيات. بالقرب من الذاكرة البعيدة، تقع مدرسة «شاريتيه» القريبة. وكانت وحدها؛ بلا رهط المباني المتهالكة بفعل الرطوبة والنسيان. لا أعرف ما الذي تركته الطائرات من المباني. بعدها بشارعٍ واحد، تحويطة الغدير، حيث كبِرت. لقد انتقلنا إلى ذلك المنزل على عتبة الألفية الثالثة.
عند السادسة كانت النوافذ تتثاءب. يأتي هواء لا نعرف من أين، وتطلع الشمس لتمازح السيدات الخارجات لتوّهنّ لريّ الشرفات. تحضر صورة مادونا في رأسي وهي تهرب من على المسرح. مادونا تطارد مارادونا. وبوسترات على الحيطان التي صدّعتها معزوفة حرب الآخرين. ورصاصات الأهل وجرائم الطيبين، الموعودين برحمةٍ مرقطة على بوابة الجنة. والعائلة المقدّسة والمكومة فوق نفسها في منتصف الطريق إلى متاحف الذاكرة البطريركية. ابتسامة خاطفة: راكيل المكسيكية في الشاشة البدينة وأنطونيو غرامشي في الكتب المكدسة أمام حياتي. ماغاپاي: تحت الدوش أدندن الأغنية الحزينة بسعادة بالغة. ولكي لا نغرق في درس القراءة، يجب أن نعترف: المازوت معلّق على حبال النوستالجيا، مع تلك الملاقط الملوّنة المصرّة على البقاء في التسعينيات. وعيوننا تجول داخل الڤيديوكليپات وحول MTVعندما شاهدنا الستالايت أول مرّة هنا في بيروت.
ذاكرة على حبل الغسيل. غرامشي الثلاثينيات على حق. قصص يطيّرها الهواء وبفعل الحرارة والوقت تخفت، ثم تنقطع عنها الكهرباء. يعني تنطفئ وفجأة تشتعل. شيء مثل مرسيدس «قَطْش» بيضاء تستعد للانطلاق نحو الفضاء.
لا يتذبذب صوت الحديقة المتوحشة وهو يعبر في التلفزيون مع مغيب الشمس. Truly, Madly, Deeply. القليل من خيانة الاشتراكية، الكثير من الكحول. ولا تفقد أوراق الأشجار رونقها الخريفي- المريح مع أنّه كليشيه- بينما يعانق المغني نفسه في الڤيديو كليپ وهو يصيح. ولا أعرف لماذا. ولا أريد أن أعرف. البرد حقيقي مثل الأشياء الحقيقية التي لها طعم وشكل ومعنى: كان الوقت بارداً. كنّا نعيش في ثلاجة بطيئة. وضعتنا الهواتف الذكيّة برفقٍ في أفران. وقد نسمّي كل هذا ببلادة «حنين». مع ذلك نعرف أنه ليس كذلك، لأنه كان فعلاً. الوقت انقضى يا بسام. وها هو المدّعي داڤيد بِكهام يحتفل لوحده بهدف الفوز المفاجئ، وڤكتوريا تصفق ونكتشف الآن أنّها أحلى منه. وها أنا أتشبث بالووكمان الصفراء وأغيّر الكاسيت. تلك الطقطقة عندما أغلق الووكمان. والصوت الذي يحدثه الضغط نزولاً على الزرّ.
Play
ماذا؟ ليست الصورة التي في الرؤوس عن «هناك»؟
لست عدوّ الحداثة طبعاً. رأسي يؤلمني وحسب. ومِن بعيد تبدو مدينة طفولتي كالقمح، وفي يدي كان المنجل. مثل الجميع كنت أحصد أيامي بنفسي. طقطقة، صوَر مشوشة تتثاءب ولا تنام. لا يسبب الحنين الألم، بل الخوف. الخوف الساخن، من أن ينفجر الهاتف، أو التلفزيون، أو يرسل قمر اصطناعي إشارة خاطفة إلى رأسي، فأنطفئ وحيداً، كهاتف، كتلفزيون. هل يمكن القول بعد الآن إنّ شيئاً مثل هذا لا يحدث؟ يحدث طبعاً. معي ومع غيري من العابرين المسالمين في هواء عابر. يجب أن أتوقّف. بعد قليل قد لا يعود الرصيف موجوداً، وينبغي أن أعبر مع الصديق جون كولتراين إلى العالم الآخر.
مثل القطارات هي الحياة، خلفنا دائماً.
يمكنني أن أجزم وأبتسم. ويمكنني للأسف التحدّث لساعات عن الجذر الكولونيالي للاحتلال. فقد نشأت وكبرت بين احتلالات كثيرة بجذور متنوعة. مِن الضاحية تحديداً، لا أنسى حاجز الاستخبارات السورية في المشرّفية، على مقربة من منزل العائلة في الشيّاح، ولا وجه الجندي الذي أطلق النار من هناك، بلا سبب ولن يوجد سبب، على سيارة أمام سيارتنا مباشرةً. لا أنسى وجه أبي المسالم والحائر. وجهه عندما حاول بكل الطرق أن يبعد نظري عن الرجل الذي أصيب في السيارة التي أمامنا.
لقد كان احتلالاً لطرقاتنا وبيوتنا وحياتنا. لن أنسى الرصاص والخوف من الاستخبارات وغرف التعذيب التي سمعت عنها من البوريڤاج إلى عنجر، والحواجز من المشرفيّة إلى صيدا، فقط لأنه يوجد جذر معلن بين الكولونيالية والاحتلال يتوجب علينا اتباعه بسذاجة. وأعتقد أني مثل جميع الذين طاردت الطائرات حيواتهم، لن أنسى طبعاً، الاحتلال الاسرائيلي الطويل. في بيروت، بقيت أخاف من أن أستيقظ ذات يوم أحد وأجد الميركاڤا تحاول اقتحام المنزل.
ذات يوم هاجم الجنود جدّي هو يصلّي أمام داره، ولا أعتقد أنّهم ندموا على تصويب الرشاشات نحو رجل أعزل في السبعين، وقد خرج من منزله لتوّه ليتفقّد الندى على مقبض الباب والزجاج الأمامي لسيارةٍ معطّلة. خرج ليبدأ نهاره وحسب. ولا أفهم كيف يكون كلّ هذا بعيون الآخرين عادياً وقليلاً، وإن كان هناك في العالم شيء يدعى «موازين قوى». ولا أساوي بين هذا وذاك، ولا أقارن. ليس هذا نصّاً مرجعياً. إنه استعراض لندوبٍ داكنة لا تزال طرية. فالطائرة الآن في هذه اللحظة كأنها فوق رأسي؛ حتى هنا في روما، تحوم وتشتهي دمي ودماء العابرين.
أقاوم بالكتابة. ورغم الأسى أتذكّر جارتنا التي قاومت بمتابعة حياتها فسكبت الماء والدمع في حوض الأزهار على الشرفة، وجهّزت حقيبة ابنتها للذهاب إلى المدرسة، رافضةً الاستسلام لمحاولات الاحتلال بقتل مظاهر الحياة. وأتذكّر جارنا الذي مات بشظيّة وبقيت سيارته التي كان يبيع الحلويات فيها مركونةً في مكانها لسنوات. وهناك من سيقول، لا يكفي. لكني تعلمت أنّ المقاومة سلوك يومي وإنساني وطبيعي ضدّ الاحتلال وضد جميع مظاهر التسلّط. وإن كان الاحتلال طائرات ودبابات وجدراناً، فالمقاومة ليست مشروعاً أيديولوجياً. المقاومة نهر: رغبةٌ جارفة بإكمال الحياة لا بفنائها. المقاومة ليست ميليشيا.
غادِر بيروت.
كان الأصدقاء يقولون.
كان هذا تذكيراً دائماً بالوِحدة.
وكنت أحاول عبثاً أن أشرح استحالة «تحريك المياه الراكدة في اللوحة». واليوم، من بعيد، أرى مدينةً كاملة تختفي. تنسحب الأصوات وتتراجع الوجوه. الأرض والسماء وما بينهما. كلّ شيء يتبخّر. يبقى فقط دخان وأسلحة ومحلّلون يبربسون في التلفزيون. وفي السماء وعلى الأرض آلات تجمع قصص الموتى وأنفاس الأحياء وبصمات عيونهم. لا بدّ أن أعترف، بطريقةٍ ما، أنّي لست متأكداً أنّي أكتب عن نفسي. ربما عن شخصٍ كان يشبهني، لدرجة أنّه أنا. لكنّي لست متأكداً من كوني أنا نفسي، ومن أنّ تلك كانت حياتي ذات مرّة، ولم تكن حياة شخص آخر. وقد نسمّي هذا تنصُّلاً مريعاً. لا أستكثر شيئاً على المكان، ولكني مثل سالڤاتوري في سينما پاراديسو، عندما استقلّ القطار.
لا أعرف مصدر الأسى، فالذاكرة وحدها لا تكفي.
يعزّيني أنّي قرأت نصوصاً لأصدقاء يبحثون مثلي تحت الركام نفسه، كلٌ عن ذكرياته الخاصة، وإن كنت لم أقوَ مثلهم على متابعة البحث. عندما ترى بأمّ عينيك وجه طفلة يخرج من تحت سقف اغتالها أثناء نومها، تشعر أنّه لا يوجد أي معنى للبحث ولا النجاة ولا الحياة. مع ذلك تابعت البحث من نافذة الطائرة. عن أيّ شيء وعن كلّ شيء. وفي نهاية النهاية، أشحت نظري عن «روضة الشهيدَيْن». عن منزل العائلة القديم قرب المطار. عن غرفة الجلوس في الشتاء بعد الخامسة عصراً. أشحت نظري عن طفولتي الباردة. عن الأشجار المعمّرة من المريجة باتجاه براد التفاح في تحويطة الغدير منتصف التسعينيات. عن أزهار لارا. عن كاراكاس بعد الثانية فجراً. والطريق من السينما في الأشرفية إلى تورينو في الجمّيزة. وعن عين المريسة التي تتمدّد وتتّسع كلّما ارتفعت الطائرة.
صارت السماء تحت.
الرحمة، الرحمة. تهمس الأمواج وهي تبتعد. دمعة أخيرة فوق البحر، دمعة يابسة معلّقة بين السماء والأرض. هكذا وحسب هي الحياة خارج بيروت.