احتلّ حبيب صادق على مدى أربعين عاماً موقعاً استثنائياً في الوجدان اليساري اللبناني، الجنوبي تحديداً، لأدواره الثقافية والسياسية ولما مثّله من استقامةِ سيرةٍ ومن حرصٍ استثنائي على الكرامة رغم موازين قوى هشّة، ومن شجاعةِ تحدٍّ للأمر الواقع وقواه الميليشيوية والمالية والمخابراتية.
بدايات يساريّة في الحرب الأهليّة
بالإضافة إلى موقعه في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، أبرز الهيئات الثقافية في لبنان وأكثرها نشاطاً على مدى عقود، نشر حبيب الشعرَ وجمع كتّاباً من أجيال مختلفة في مؤلّفات رافقت صعود اليسار اللبناني والكفاح الفلسطيني، وعرّفت جمهوراً لبنانياً وعربياً واسعاً على أدباء جنوبيين خطّ بعضهم طريقه لاحقاً في ميادين مختلفة. وخاض في العام 1968 الانتخابات النيابية في قضاء مرجعيون حاصبيا، مدعوماً من الحزب الشيوعي ومن كمال جنبلاط، ومدعوماً أيضاً من قاعدة شعبية تتعدّد أمزجتها وتتعلّق مكوّناتها بمواقفه ومسلكه ونشاطه كما بلغته وأسلوبه المحبّب. منحته هذه القاعدة الواسعة نسبة أصوات عالية، لكنها لم تكفِ للفوز. وأعاد الكرّة العام 1972 وقيل إن تزويراً حال دون انتصاره المُحقّق في أوج هيمنة كامل الأسعد، رئيس المجلس، على الحياة السياسية الجنوبية وعلى الخدمات العامة والخاصة وعلى شبكات الزبائنية.
في العام 1978، دمّر الاحتلال الإسرائيلي منزل حبيب صادق في بلدته الخيام التي اقتحمها في اجتياحه الأول. سبق ذلك نجاته من محاولة اغتيال تبعت اجتياح جيش النظام السوري لبيروت. فتحوّلت النبطية الى مقرّ إقامته، وله فيها أصلاً جذور وعلاقات وطيدة. وعمل من هناك، ثم من بيروت التي عاد إليها بعد الاجتياح الإسرائيلي الثاني العام 1982، على تنظيم اللقاءات والحملات والمهرجانات الثقافية لبنانياً وعربياً وفي أوساط الطلاب والمغتربين في أوروبا وأمريكا دعماً للمقاومة الوطنية ولمستشفيات النجدة الشعبية. واستمرّ الأمر حتى أواخر الثمانينات التي أُقفل فيها المجلس الثقافي بعد تصاعد الاغتيالات المستهدفة مثقفين شيوعيّين (متحدّرين من عائلات شيعية)، قبل أن يعود ويستأنف نشاطه أوائل التسعينات.
انتخابات 1992 و1996
في العام 1992، انتُخِب حبيب صادق نائباً ضمن «لائحة التحرير والتنمية» التوافقية التي أُريد من خلالها، في أول انتخابات بعد الحرب، تظهير المصالحات بين معظم الأطياف السياسية الجنوبية. لكن «التوافق» لم يطُل، إذ خرج حبيب سريعاً منه، وبدا في انطلاقته الجديدة كمن يُشهر فعل الندامة على ما فعل، ويعطفه على تحدٍّ جديد. هكذا، عمل على تأسيس «الحركة الشعبية الديمقراطية» مع عددٍ كبير من الوجوه اليسارية الثقافية والنقابية والطلابية الجنوبية، وأصدر وثيقة سياسية العام 1995 أشارت لأول مرّة في أدبيات اليسار العلنية منذ الثمانينات إلى النظام السوري بوصفه راعياً لتحالف الفساد والميليشيا.
وفي العام 1996، خاض حبيب الانتخابات على رأس لائحةٍ مواجهةٍ للائحة حركة أمل وحزب الله فَرض حافظ الأسد آنذاك على حزب الله وحركة أمل التحالف بعد دعوته السيد نصر الله إلى اجتماع طارئ لمناقشة الأمر، صدرت من بعده «فتوى» تدعو للالتزام بالتصويت المتبادل بين الطرفين. وتيار الحريري والحزبَين القومي والبعثي وعدد من رجال الأعمال ووجهاء العائلات. ولا أظنّ حملةً إنتخابية منذ العام 1992 وحتى يومنا هذا، شهدت تنويعاً في أنشطتها ومقارباتها وعدد اللقاءات التي نظّمتها في الجنوب والضاحية الجنوبية وبيروت والبقاع الغربي (حيث ناخبون جنوبيّون هُجّروا من حاصبيا ومنطقة العرقوب بخاصة)، بمقدار ما عرفته تلك الحملة. من إصدار نشرة دورية، وُزّعت في البلدات وعلى الطرقات، الى تسجيل «كاسيتات» توضع في السيارات، ومن ضمنها سيّارات الأجرة المناصِرة، إلى إصدار البيانات وبلورة البرنامج الانتخابي، وإطلاق مشروع «الألف ليرة» الشعبية لتمويل الحملة، وصولاً إلى عقد مئات الندوات والتجمّعات المتنوّعة الأحجام والحضور، شقّت تلك الحملة طريقها يومها، رغم مقاطعة بعض الإعلام لها تواطؤاً مع قوى السلطة أو خوفاً منها. وتمكّن حبيب رغم الضغوط والتضييق وقلّة الموارد والاعتداءات من الحصول على قرابة الـ70 ألف صوت، في وقت وصل معدّل اللائحة المواجهة إلى حوالي الـ120 ألفاً.
تشكُّل معارضات ما بعد الحرب (1996-2004)
بين العامين 1996 و1998، شهد البلد حراكاً سياسياً وثقافياً ضمن هيئات نقابية وحقوقية ونوادٍ طلابية جامعية ومسارح وصفحات صحف، بهدف التصدّي لاتّساع الفساد والتعدّي على الأملاك العامة، ومطالبةً بكشف مصير مخطوفي الحرب ونصرةً لحقوق المرأة، ودعماً لحقوق المعوّقين ودعوةً لاعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية وإصلاح النظام الانتخابي. كما شهد بيانات مثقفين ضد التناهب والسياسات الاقتصادية وممارسات التضييق على الحرّيات العامة وعلى القضاء، وشهد خاصةً تطوّر عمل «الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات» وقيام أكبر حملة مدنية للمطالبة بالانتخابات البلدية («بلدي بلدتي بلديتي») نجحت في فرض إجراء ذلك الاستحقاق لأول مرّة منذ العام 1963. كل ذلك بموازاة محاولات يسارية لتأسيس منبر أو تجربة أو حركة جديدة.
رافق حبيب الحراك هذا عن قرب وانخرط به، مع المجلس الثقافي، ومن خلال التجمّعات المواطنية والمنتديات التي ساهم في قيامها أو في التحالف والتنسيق معها. وبدا أن الحيوية الكبيرة المنبثقة من مواقع مختلفة في المجتمع اللبناني مقبلة على تحقيق خروقات سياسية في مواجهة السلطة بأذرعها المتعدّدة. لكن «انتخاب» إميل لحود رئيساً للجمهورية العام 1998 عقب انتقال «الملف اللبناني» في سوريا إلى يد بشار الأسد الجاري تحضيره لوراثة أبيه، وصعود نجم جميل السيد وجهاز الأمن العام، وارتباك مواقف «التغييريّين» تجاه تركيبة السلطة الجديدة ذات القوى المتحالفة والمتنابذة وتجاه حزب الله المتوسّعة شعبيّته عقب تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي العام 2000، أضعفت جميعها الحيوية المذكورة، وتراجع الزخم المعارض في انتخابات العام 2000 (نال حبيب حوالي الـ50 ألف صوت مقابل معدّل تخطّى الـ180 ألف صوت للائحة السلطة).
على أن الحيوية هذه استُعيدت بين العامين 2001 و2004، ولو على قاعدة فرز سياسي مختلف، قوامه هذه المرّة الموقف من سلاح حزب الله بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي ومن هيمنة النظام السوري ومخابراته وضرورة سحب جيشه من لبنان. وقامت في البلد تجمّعات كبرى، أبرزها لقاء «قرنة شهوان» الذي أطلق بدعم من بطريرك بكركي مار نصر الله بطرس صفير نداءً سياسياً بحثاً عن تطبيق ما لم يُحترم من «اتفاق الطائف»، وعن إعادة التوازن الى العلاقات اللبنانية الداخلية والى العلاقات اللبنانية السورية. وتسبّب قيام اللقاء باصطفافات وسجالات سياسية جديدة، ونتج عن المناخ المذكور تشكّل «المنبر الديمقراطي» العام 2001، بمبادرة من حبيب صادق وعدد من أعضاء «قرنة شهوان» العلمانيين، ومن يساريّين منشقّين عن الحزب الشيوعي ومن تجارب عديدة أخرى، ومن مستقلّين ونقابيّين وطلّاب وكتّاب وصحافيين، ومن ممثّلين لاتجاهات سياسية استقلالية وإصلاحية تراوح بين «الوسط» و«يسار الوسط».
انفجار الصراع الداخلي و«الاتفاق الرباعي»
هكذا تصاعدت المواجهة مع قوى السلطة من خلال «المنبر الديمقراطي» الى أن تخطّته الظروف العام 2004، لحظة دخول لبنان في مرحلة توتّر شديد عكَس في الوقت نفسه ديناميّات داخلية وتأثيرات خارجية (إقليمية ودولية). أفضى الأمر الى تشكيل «لقاء البريستول» الذي احتوى «المنبر الديمقراطي» وصهرَه في بوتقة إلى جانب قوى طائفية جيّاشة، تبدأ بالحزب التقدّمي وتمرّ بقوى اليمين المسيحي وتلامس الحريريّة (من دون انخراط علنيّ مباشر للأخيرة فيها)، وفق أولويّة مُنحت لإخراج النظام السوري من البلد. في المقابل احتشدت القوى الموالية للنظام السوري في «لقاء عين التينة» عند رئيس المجلس نبيه برّي، وبدا أن الفرز ذاهب إلى صدام سياسي وانتخابي كبير في استحقاق مزمعٍ عقده بعد أشهر. لكن التمديد المُهين لإميل لحود بعد انتهاك مكرّر للدستور، وصدور القرار الأممي 1559 والتجاذبات حوله، أظهرت أن نظام الأسد عازم على رفض كل تسوية تُضعف قبضته على لبنان والتصدّي لها. ولم يمض وقت طويل بعد التمديد والقرار الأممي حتى تعرّض مروان حمادة لمحاولة اغتيال كانت بمثابة التحذير الدموي للتقاطع «الدرزي السنّي المسيحي» الذي جسّده، تبع ذلك بالطبع قتل رفيق الحريري في عملية اغتيال ضخمة أطاحت بمن عدّته دمشق وحزب الله وحلفاؤهما «المحرّض» الأول لاستصدار الـ1559، والزعيم السنّي الأبرز ذا الامتدادات السعودية والغربية والنفوذ داخل سوريا نفسها.
عشيّة ذلك وبموازاته، كانت «حركة اليسار الديمقراطي» قد تأسّست، وعمودها الفقري يساريّو «المنبر الديمقراطي»، شيوعيّين وغير شيوعيّين، وأجهز تأسيسها عملياً على «المنبر» إذ أن باقي مكوّناته كانت أصلاً ذات ارتباطات تتخطّى حدوده السياسية ودوره «التجميعي» أو «التنسيقي». ومع انفجار «انتفاضة الاستقلال» في شباط 2005 وصولاً إلى حشدها المليوني في 14 آذار ردّاً على حشد حزب الله في 8 منه، بدا حبيب صادق متوجّساً لارتباك قسم كبير من أصدقائه ومن محبّيه ومناصريه الجنوبيّين تجاه القسمة الجديدة بين المعسكرين اللذَيْن تقودهما قوى طائفية بعضها تشارك طويلاً في السلطة. وجاء «الاتفاق الرباعي» بعد الاندحار العسكري السوري بين حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي وتيار المستقبل ليوجّه طعنة له ولكثرٍ مثله، ممّن كان يسمّيهم بنفسه «الخوارجَ» على الطوائف والجماعات الأهلية. وإذا كان توالي الاغتيالات فرض على بعض من ظلّ في «اليسار الديمقراطي» الاستمرار كي لا يبدو الانكفاء استسلاماً أمام الإرهاب والقتل، فإن وتيرة الأحداث وإيقاعاتها السياسية والإدارية وما أنتجته من سلطات وممارسات تخطّت جميع الاعتبارات، وصار هؤلاء كما حبيب في ضفّة تبتعد عنها التطوّرات والقرارات تدريجياً إلى أن أصبحت في موقعٍ مضاد لا يختلف كثيراً عن ذاك الذي كانت فيه بين العامين 1994 و2004، ولو اختلفت أشكاله وبعض معالمه.
الابتعاد عن السياسة
حبيب صادق آثر منذ تلك الفترة، الابتعاد سياسياً عن حلبة لم يعد لِقيَمه ومواقفه أصداء فيها، مُكتفياً بنشاطه في المجلس الثقافي ومُصدِراً أخيراً كتاباً (حاوره فيه الزميل طانيوس دعيبس) يروي سيَره الثلاث: سيرة الفرد المنحدر من عائلة جنوبية لبنانية شيعية، المتمرّد على هويّاتٍ وسلوكيّاتٍ جسّدها والده المُعمّم الذي جهد كي لا يأخذ منه غير فصاحة اللسان؛ وسيرة الفرد المختار الماركسية ثم اليسارَ بالمعنى الأرحب نهجاً وأفقاً سياسياً وفكرياً؛ وسيرة الفرد المقيم في مساحة التقاء النشاط الثقافي بقضايا فلسطين والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمتفرّغ لها لعقود طويلة. عقود حفلت بالكفاحية، وحفلت بالشجاعة (حتى في مواجهة السرطان والقبول بعلاجاتٍ تجريبية أنزلت به الهزيمة) وحفلت بصرامة المواقف التي لم تُسقط دماثة الخلق ولطف الحديث، والأهم، لم تضحِّ مرّة بكرامة أو تقبَل بانحناء هامة. وهذا في ذاته من أبرز ما في إرثِ حبيب.
لك السلام والحبّ والورود «يا عزيزي».