رثاء في زمن الاحتلال
تتوالى أصوات الانفجارات خارج مقبرة مار إلياس. الكاتب مات، أو هكذا يقولون. أما نحن المشيِّعين، فنواري الكاتب الثرى بصمت ونسير في شوارع بيروت وهي تنفجر بها أجهزة «البيجر». تحوّلت أجساد أهل المدينة إلى قنابل موقوتة، بينما كنّا نمشي ولا نصدّق أنّ هذه هي بيروت، وأنّ الراحل هو إلياس، وأنّ الزمن الذي نعيشه جميعاً هو «زمن الاحتلال».
مجدّدًا.
كان إلياس خوري قد استعاد زمن احتلال سابق في سلسلة مقالات كتبها في جريدة «السفير»، زمن الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، ثمّ جمعها في كتاب «زمن الاحتلال»، الصادر بطبعته الأولى عام 1985 عن مؤسسة الأبحاث. وثّقت المقالات نقاشاً مرتبكاً ومتردّداً حول التطورات المتسارعة، تشبه إلى حد كبير ما نعيشه منذ شهر، لنعود مجدداً إلى لحظة الارتباك التي تتجاوز الخوف وعجزنا المستمرّ عن استيعاب الزمن الهش.
الزمن في جيوبكم، والأغنيات على أصابعكم والموت غارق في ثيابكم، رأيتكم، كنّا سويّاً، ولم يتخلّف أحد، حتى الذين سقطوا ولم يجدوا من يدفنهم جاؤوا.
— «أنصار»، زمن الاحتلال، ص. 37.
رحل إلياس خوري في لحظة جماعية تلخّص حياته، أو هكذا تبدو، تشبه إلى حدٍّ ما ما حاول الانتماء له دوماً، وهي اللحظة التي تجعل أزمنة المدينة وأسئلتها جزءاً من حياتنا الشخصية. وعلى الرغم من أنه لم يستعجل النهايات يوماً، إلا أن البداية بالنسبة لنا ما زالت عصية على الشرح. نعود معه، كما في رواياته دائماً، إلى الأول، حيث يعيد في الأول رواية الحدث والحكاية بطرق مختلفة، وكأنه يستعيد ذاكرته الشخصية وذاكرة من معه، محوِّلاً حياته الشخصية إلى حياة جماعية تكفي لاستعادة الذاكرة.
«زمن الاحتلال»
بين الخاص وزمن الاحتلال، حاول الياس خوري بناء رؤية تفصل الدائم عن المؤقت، كأنّه يحاول استرجاع نفسه من خلال الأسئلة التي حاول طرحها في الكتاب. الدائم يكمن في قدرتنا على بناء خياراتنا السياسية والفكرية على أساس لا يفصل مقاومة الاحتلال عن المجتمع، والرؤية السياسية اللبنانية عن حاضر مأزوم بالتسويات ومحاولات تغييب أفق المواجهة.
البديهي الغائب والمغيب، فالأوطان لا تصنعها التسويات المؤقتة، والدولة لا تبنيها قوى كانت هي المسؤولة عن دمارها الرمزي، والطوائف- المؤسسات، ليست هي الإطار الذي يبني إرادة مقاومة وطنية، وإرادة حرية
— «وتكتمل الذبيحة»، زمن الاحتلال، ص. 125.
زمن الاحتلال هو حاضر مأزوم، يفرض غربة على كل فرد فيه، غربة جماعية تتطلب منّا مجددًا تجاوز غربة الجنوب وغربة ضاحية بيروت، لتحويل الجريمة الإسرائيلية إلى الواقع الوحيد الذي يحدد طبيعة حياتنا اليوم وغداً. أو كما يكتب الياس خوري
الجنوب وحيد وغريب في هذا لبنان.
وحيد لأنه يواجه احتمالات الحاضر والمستقبل. الآخرون غارقون في أوهام الماضي، بعضهم ما زال يعيش وهم الحنين إلى الحماية الغربية وإلى الانتماء إلى العالم «الحر» وإلى تكريس امتيازات لا معنى لها، والبعض الآخر يغرق في ماضي آخر، في تاريخ لا تاريخ له، تاريخ صراع القبائل في القرون الماضية. وحده الجنوب في وحدته أمام الحاضر والمستقبل.
— «الجنوب الوحيد والغريب»، زمن الاحتلال، ص. 219.
يوسّع الاحتلال الإسرائيلي حربه اليوم، قادماً من حرب إبادة في غزة، مستمرة منذ عام تقريباً، سقط ضحيتها أكثر من 40 ألف فلسطيني حتى الآن. هذا ليس ماضياً، بل حاضر مستمرّ يحاول الاحتلال تكريسه. واجه الياس خوري الزمن كونه حاضراً يكرره الاحتلال، تكراره يعني استمرار القتل. ولربّما هذا ما يحدث اليوم، كأن اليقين هو لحظة مواجهة، تفصل أوهام الماضي عن الحاضر الذي يفرضه علينا الاحتلال، ليكون انتصارنا الشخصي بالتضامن العميق الذي يؤسس لنضال جماعي، الأولوية فيه تكمن في مواجهة حقيقتنا ومسؤوليتنا كوننا وحدنا، وأن العالم الذي يرى ويسمع منذ عام وقع الإبادة في غزة، لا يمكن استجداؤه بصكوك الغفران.
أكتب الآن وأنا أسمع أصوات القصف على ضاحية بيروت. قبل أسبوع، قصف الاحتلال مركزاً طبياً في قلب العاصمة في منطقة النويري ورأس النبع. أشعر وكأن كل شيء مُهدَّد، لا بالقصف فقط، بل بالعجز الذي يكرّسه الخوف، هذا الخوف الذي وصفه الياس خوري كتقسيم:
عندما يكون كل شيء مهدَّداً، عندما تصبح الحياة نفسها مهدَّدة، فمن أي شيء نخاف؟!
عندما نرى التقسيم هاجماً علينا، ونرى ونقرأ عن مشاريع اقتسام لبنان وتفتيته، وعندما نرى هذا الانهيار الداخلي عبر عجز الطبقة المسيطرة وإفلاسها، ونرى الطوائف تنمو كالوحوش، والوحش الإسرائيلي يرعاها ويبشّر بحروب لا تنتهي..
عندما نرى كل هذا، ونرى بيروت المقصوفة والأرض المحروقة من الضاحية إلى كل الضواحي، فكيف نخاف؟
ولأننا نرى لا يحق لنا أن نسكت، لا يحق لنا أن نكتب وكأننا لا نكتب، لا يحق لنا أن نهدر تاريخ حرية الكلمة في لبنان أمام الخوف من زمن الاحتلال.
— «حرية القمع»، زمن الاحتلال، ص. 138.
كان خوف الياس خوري يشبه خوفنا اليوم، خوف من الزمن المهدور بالانقسام والصمت، ومحاولات الانتقام من أنفسنا بسبب وجود الاحتلال. فمَن ينتقم من نفسه لتبرير وجود الاحتلال، يجعل من العجز وسيلة تبرّر وحشية الاحتلال. فالصمت على الاحتلال والتبرير له يفرغان الكلمات من دلالاتها ومضمونها، وكأن اعتبار الكلمة يكمن في حريتها وفي مقاومتها للوضع السائد.
زمن للوضوح وآخر للارتباك
نقول عن الأشياء إنها واضحة، حين تظهر على حقيقتها، حين ينكشف الموقف ويصبح مفهوماً. الحرب قد بدأت في لبنان: غارات، مجازر، ونزوح مستمر. إنها لحظة الوضوح التي افتتح فيها إلياس خوري مقالاته في الكتاب، لاستعادة القدرة على التفكير والكلام، دون تغييب حقيقة واقع الاحتلال والتغييب الكامل لإرادة الحياة.
وعلى الرغم من أنّ تجاوز الزمن الذي يفرضه علينا الاحتلال أمر مربك، إلّا أنّه زمن يكشف علاقة الناس بمصائرهم. نراه في وجوه النازحين وهم يعبرون شوارع بيروت ويفترشون أرصفتها وكورنيشها البحري. تلك المشاهد جمعت وضوح الرؤية بوضوح اليقين، لتكشف لنا عمق المأساة القادمة، والتي بات من الصعب تجاوزها بالحجب. لم تكن كل التطورات السياسية والعسكرية، مجرد لحظات متتالية كما أظهرها شريط الخبر العاجل لوكالات الأنباء، بل كانت زمناً مكثفاً لا يمكننا تجاهله.
قد تختلف ظروف زمن إلياس خوري مع الاحتلال عن زماننا، إلا أن الثابت هو الوحشية والفوضى بين الزمنين، ومدى قدرتنا على فهم أنفسنا وفهم العالم من حولنا. ربما من أجل ذلك جعله إلياس خوري زمناً للوضوح، طالما هناك احتلال ستكون هناك رؤية واضحة لا تنفصل عن الواقع.
غير أن مراجعة التجربة ونقدها تختلف عن التصرف الانتهازي الذي لا ينتقد إلا الماضي. لا يتمرجل إلا على المهزوم ويمجد من يعتقده منتصراً. مراجعة التجربة تبدأ من رؤية اللحظة الراهنة واكتشاف احتمالاتها ونقد أخطائها، ومن دون ذلك نكون كمن لن يتعلم شيئاً.
— «لحظة الوضوح»، زمن الاحتلال، ص. 7.
لحظة الوضوح تكمن بالاعترف بأننا لسنا أبطالاً خارقين، بل حالمون، نحلم كل يوم بعالم بلا استبداد أو احتلال، وأن أسئلتنا عن الواقع ما زلت بلا أجوبة، لكنّها تبدأ من لحظة الاحتلال.
على الرغم من أن الأجوبة ليست جاهزة. وعلى الرغم من أن جميع الأجوبة الجاهزة هي أجوبة خاطئة فإن طريق الوحدة وطريق إعادة تقييم التجربة وطريق النقد الذاتي تبدأ من نقطة واحدة: مقاومة الاحتلال.
— «لحظة الوضوح»، زمن الاحتلال، ص. 11.
لا مفرّ من الاعتراف بالهزيمة. لكنّ تفكيكها يؤكد بأنها لم تبدأ مع الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، بل بما قبله. فزمن الاحتلال هو زمن إعلانها الصارخ، ومواجهة واقعنا السياسي الممزق، الغارق في فراغه، حيث تلاقت به أوهام السلطة بأوهام القاتل، لنرى اليوم كما رأى الياس خوري، أنّ انهيارنا بدأ من تغييب معنى المواجهة، مواجهة فوضى السلطة وفوضى الاحتلال.
لحظة الوضوح الأولى هي لحظة الهزيمة. غير أن الهزيمة لم تحصل في صيف 1982، صيف 1982 كان زمن إعلانها الصارخ، وفي هذا الصيف الدموي اكتشفنا كما كان الواقع غامضاً قبل الاجتياح، وكم كانت الهزيمة كامنة، وكم كان العجز في مواجهة احتمالاتها والتفكير بها قاتلاً.
— «لحظة الوضوح»، زمن الاحتلال، ص. 8.
أفق للكتابة وآخر للموت
كتب الياس خوري شهادته ليواجه النسيان، ليكون زمن الاحتلال تجربة تعني الجميع، وتفرض على الثقافة معنى مواجهته. وثق الياس خوري سؤال العلاقة بين الكتابة والفعل، والرابط بين الكلمتين يكمن في الحرية. تجاوز الياس خوري العلاقة الملتبسة بين الكلمتين، من خلال نقل الكتابة إلى مستوى الشهادة، لكي تصبح الكلمات شاهدة على موته وموت أصدقائه. أو الكتابة كشهادة:
هذه المعركة طويلة، إذا استطاعت أن تتعلم من دروس الهزائم، وهي دروس كثيرة، وإذا استطاعت أن تخترق الحجاب الطائفي، ولو جزئياً، تسمح ببلورة حد أدنى من الشهادة الجديدة، والكتابة الفعلية، وهي كتابة لن تؤدلج لأخطاء أحد، بل شرط وجودها هو تقديم الواقع وإعادة الاعتبار للحقيقة، ورفض مصادرة الحرية تحت أي شعار أو سبب، لأن الحرية هي أصل كل قيمة وهدف كل نضال.
— «الكتابة والصمت»، زمن الاحتلال، ص. 119.
لذلك ليس مستغربًا أن يفتتح كتابه بسؤال الوضوح وينهيه بسؤال الكتابة كفعل مقاومة الموت. لم يكتب هذه المقالات لكي ينتصر، بل ليستعيد قدرته على الكلام في محاولة لصياغة لغة جديدة للخروج من الحلقة المفرغة التي أنتجتها السلطة وكرّستها السياسة. من يرى في زمن الاحتلال هو من يسأل، من يبني مقاومته دون إفراغ الزمن من معناه بالنسيان والانقسام الطائفي.
قد يكون الموت لا يحمل سوى جواب النسيان، نكتب كي ننسى. الكتابة التي تنسى وتمحو عوض أن تسجّل. الكلمات التي تمحو الكلمات، كتابة ما ينفي الكتابة، ألا نرى أمامنا هذا التراكم للنصوص والأعمال التي تمحو الذاكرة. تنسى التاريخ وتؤرخ للنسيان في قالب طقوسي. لم يعد هناك سوى الطقس الذي أفرغ من مضمونه. أليس هذا هو التعبير الأكثر دقة عن الانحطاط والانحلال. لكن الكتابة التي تكتب النسيان، لا تكتب شيئاً. تلغي نفسها لحظة ولادتها، وتبقى خارج معادلة مقاومة الموت
— «الكتابة والموت»، زمن الاحتلال، ص. 252.
أسئلة إلياس خوري هي أسئلتنا اليوم. مهما كانت قراءتنا متشعّبة، إلّا أنها تعيدنا إلى البداية، إلى محاولة مستمرة لكتابة ما لا يُكتب، حيث تصبح الكتابة معادلاً للجسد، وكأنها تصير الكتابة من لحم ودم، تواجه مصيرها المجهول بقراءة احتمالات لا تحصى. هذه القراءات المتعدّدة تبحث في التفاصيل، وتجعل من المشاهد والذاكرة والتطورات السياسية والعسكرية وسيلةً للتفوّق على الراهن. لعلّ هذه هي الطريقة الأنسب لنقول إننا ما زلنا أحياء وقادرين على الرؤية.