أطلّ علينا أخيراً وزير الاقتصاد، راوول نعمه، في مقابلة تلفزيونيّة قدّم فيها مقاربته لما أسماه «الفكر التكنوقراطي». ظننّا في البداية أنّها نكتةٌ يستهلّ بها الحلقة، لينتقل من ثمّ للإعلان عن الإجراءت الإنقاذية العاجلة. ولكن بعد حوالي ساعة ونصف، لم تنتهِ النكتة السمجة، بل تحوّلت إلى حسرة. فما فعله وزير الاقتصاد، عن غير قصد، هو الإضاءة على ما ينتظرنا من مآسٍ، عبر مقاربة واقعنا على الطريقة التكنوقراطية.
فعلامَ تنصّ هذه الطريقة؟
الطريقة التكنوقراطيّة تبدأ أوّلاً بحبّ الوطن بعيدًا من السياسة. فالنجاح المهنيّ للتكنوقراط يتناقض بطبيعته مع التعاطي بالسياسة. وراوول، كمصرفيٍّ لامع وناجح، أمضى وقته بتشجير لبنان عبر تأسيس وإدارة جمعية «جذور لبنان» لأنّه منهك بمساعدة لبنان بعيداً من السياسة.
الطريقة التكنوقراطية تقتضي بأن يعرف المهنيّ اللامع متى يدخل الحقل السياسي. فالتكنوقراط عليه أن ينتظر المهمّات الصعبة لا بل الانتحارية. ويعود الفضل طبعاً لزوجته، بمدّه بالدعم المعنوي لقبول هذا التحدّي من دون أن يكون معنيّاً بكيفيّة تشكيل الحكومة أو موازين قوى الأمر الواقع، أو زجّ اسمه في الدقيقة الأخيرة لحاجة التشكيلة لمقعد كاثوليكي.
الطريقة التكنوقراطية غير معنيّة بتبرير علاقة صاحبها بأصحاب الثروة والنفوذ. فعلاقة راوول بنيكولا صحناوي وعلاء الخواجة وجميل السيّد، هي كلّها علاقات مصرفية ومهنية بعيدة كل البعد عن السياسة والمصالح.
الطريقة التكنوقراطية مبنيّة على الإيمان العميق بالذات وقدراتها. كيف لا وهو المصرفي الذي دخل إلى المصرف من دون أن يعرف شيئاً عن العمل المصرفيّ، لكنّه وصل إلى مناصب عليا. فكيف له أن يفشل بمهمّةٍ كهذه؟ راوول طمأننا أن الإيمان بالذات والقدرات هو «فكر» التكنوقراط التي يتمتّع به جميع الوزراء.
الطريقة التكنوقراطية ورثها وزيرنا عن رئيس الحكومة. فلرئيسنا، في الشقّ الاقتصادي، power point. أمّا وزيرنا، فلديه excel sheet لكل موضوع: من أسعار الخبز إلى المازوت. حتى زيادة الـTVA التي يتحمّلها المستهلك بالكامل، ولا تأخذ في الاعتبار دخل الفرد، فقد رفعها قيد الدرس، ولكن ليس على جميع الشرائح بحسب راوول. وعلينا انتظار الخطة الشاملة لفهم هذا الإبداع الذي ابتكره تكنوقراطنا في تغيير مفهوم الضريبة على القيمة المضافة.
الطريقة التكنوقراطيّة تفتقر لأيّ قراءة للمصالح وتضاربها وموازين القوى. فهي تفتقد لأيّ توصيف للأزمة في بُعدها الطبقي وتركُّز الثروات والسلطات، بل تجد أن «الـ1% مزحة». استعان الوزير بخبرته المخضرمة في القطاع المصرفي ليفسّر هذه المزحة. الـ1% بحسب راوول، هم مجرّد مودعين، كسواهم من المودعين، لا يملكون القرار، متجاهلاً السياسات الاستنسابية في الأشهر الماضية، والتي فضّلت أصحاب النفوذ والسلطة ورأس المال، وأتاحت لهم تهريب أموالهم على حساب باقي المودعين.
الطريقة التكنوقراطية شغوفة بكسب خبرات المستشارين الدوليّين والتعلّم منها. لكنّ التكنوقراط أنفسهم يتوهّمون أنّهم عندما يجلسون مع مؤسسات دولية، فإنّهم يناقشونهم فعلاً، ويتحاورون معهم ويقدّمون الحلول.
لكن ماذا يحدث حين تصطدم الطريقة التكنوقراطية بالواقع؟ بموضوع خارج نطاق الـexcel، مثل موضوع سعر الصرف «المعقّد» الذي يحتاج إلى الكثير من الوقت والدرس؟ عندها، يستعين التكنوقراط بجيش المواطنين المؤمنين بمؤهّلات وزرائهم، فيدعوهم للتطوّع كمراقبين للوزارة أو الاتصال بالـcall centre التابع للوزارة، حيث هناك مسجّلة بانتظارهم لكي يبلغوا عن مخالفات التجّار والأسعار المرتفعة.
لا داعي للهلع لأنّ وزير اقتصادنا المنكوب أكّد لنا أنّ جميع الوزراء يؤمنون ويطبّقون الطريقة التكنوقراطية. فالجميع يدرس ويدرس ولا يتعاطى سياسة. يبقى في النهاية أنّ خطّة ماكنزي وسيدر، بحسب راوول، هي النهج المتّبع، مهما حاول وزراؤنا إلهاءنا بأشياء أخرى. فـ«الطريقة التكنوقراطيّة» ليست أداةً للحُكم، بل هي مجرّد اسم مستعار لمسؤولين مستعارين لتنفيذ «إصلاحات» موجعة.