من مسدّسي الشخصي، انطلقت الرصاصة الأولى صوب مخفر التلّ في الـ75
علي س. طرابلس، 2002
كان موعدنا يومها في مقهى فهيم عند ساحة التلّ. لم أكن قد قابلتك سابقاً، ولكنّ التعرّف عليك كان مهمّة سهلة. بدلتك الـsaharian كما يسمّونها كانت خارجة للتوّ من تاريخك في المدينة، مألوفة النمط، مميّزة اللون، بنّي محروق. مهمّتي الفعلية كانت أن ألاقيك هنا لآخذك بالباص إلى أبي، حيث هو في «المناطق الآمنة» نسبياً من سطوة الأمن السوري- اللبناني المشترك.
كنتَ تزور البلاد بعد انقطاع طويل في أستراليا، ولكنّ لهجتك لم تنطعج ضنّاوية- أسترالية كما الكثيرين من الأجيال التي تصغرك في تلك القارة البعيدة. ظلّت ضناويّةً جميلةً صرف.
أذكر حديثنا تماماً في المقهى، وأسئلتي لك عن تفاصيل المعارك حينها والانتماءات والقيادات والجبهات.
لم يرد في ذهني يومها أن أسألك سؤالاً جوهرياً: لماذا اقتحمتم المخفر؟ فالجواب كان أكثر من بديهيّ، بل كان فطرياً لدرجةٍ تصعب عندها صياغة التفسير. كان من الفطريّ أن نرى في الدولة وأجهزة عنفها المشرّع هدفاً. أليست تلك وظيفة الدولة؟ أن تكرهها؟
في العام 2010، شاهدت وثائقياً لرياض قبيسي قبل أن يشتعل رأسه شيباً من ملفات الفساد. وكان بعنوان «البحث عن الكاوبوي». عن المقاتل الاشتراكي «الأسطورة»، الملقّب بالكاوبوي، والذي كان مسيطراً خلال الحرب الأهلية على مناطق الكباريهات والمطاعم والفنادق في منطقة رأس بيروت. كانت ردّة فعلي الأولى غبيةً جداً. فتذكّرتُك يا علي، رحمك الله. وقلت في رأسي، نحن لدينا كاوبويات أيضاً، لماذا لا يتحدّثون عنّا أبداً؟
في الفيلم نفسه، كنتُ أريد لنفسي ولبيئتي المجتمعية دوراً أكثر بطوليةً. نحن، المهزومين، لا ينقل أمجادَنا أحد. لم أكن قادراً على تصوّر الواقع من خارج عدسة فيلم لجون واين أو كلينت إيستوود أو سيدني بواتييه الذي سمعتُ اسمه ألف مرّة على لسان أبي وهو يتحدّث عن السينمات في طرابلس الخمسينات والستينات. هل هي وظيفة الدولة؟ أن نكرهها؟ هل هي وظيفتنا؟ أن نكره الدولة؟
إنّ لعبة الموت للمفقَرين المهمّشين أقرب طريق إلى الوجود في عين المجتمع، وأقلّ تكلفة على تحالف السلطة السياسية- المالية حتى من نماذج الاقتصاد الليبرالي.
لقد اكتشفت في محاولاتي الارتقاء إلى مستوى تربية ابني، أنّ مهمّتي تنطلق من إعطائه الدواء الشافي عبر التربية ممّا أورثته عبر الجينات
زاهي د. سكايب، 2020
هل ربّانا المجتمع على ترياق ما أورثنا؟ بكلّ آلياته التربوية المباشرة وغير المباشرة، العائلة، والتعليم، والمساحة العامة، والإنتاج الثقافي والفني، لم يقدّم المجتمع لنشأتنا سوى إعادة إنتاج لفيلم الكاوبويات ذاته، مع تبدّل طبيعيّ للأبطال والأشرار بحسب المواسم. بماذا خرجنا من حروبنا إلا بالنفاق والإنكار خلف ستائر النهب بالإعمار؟
فهل نكتفي نحن بأن ننقل ما ورثناه للّذين ينشأون اليوم في هذه البلاد؟ هل نكتفي بنقل ذاكرة الرصاص في التلّ؟ بإعادة خطّ الكاتالوغات الثورية المتناقلة؟ هل نتوقّف عند مكرمة توريثهم وظيفة كراهية الدولة؟
لا بدّ لنا من أمر ننقله غير ذلك، يُخرِجهم من عباءة المظلومية الأزلية، يوازن نقمتهم بما يُؤَرِّضها ويجعلها ممارسةً تحرّرية بنّاءة يوميّة، كما يؤرَّض القلق فيمسي خلقاً. أو نريدهم مجرّد رموز جديدة يملأ بها مجتمع الفرجة معدته المثقوبة؟
خلال تظاهرات بيروت في الشهرين الأوّل والثاني للثورة، صادفت تصرّفين من شبّان وشابّات بالكاد يبلغون العشرينات، تصرّفَيْن لا يشبهان بأيّ شكل الأنماط البيولوجية حتى التي تقيّدني وتقيّد حركتي.
مجموعة متظاهرين لم يهلعوا هرباً عند إحدى الغزوات التشبيحية ولا حتى دافعوا عن أنفسهم، بل اكتفوا برفع أيديهم في الهواء. صدمني المشهد، لم أفهم كيف تتحرّك السيالة العصبية في هؤلاء، أثار استهجاني صوت في رأسي يصفهم بـ"الجمعياتيين"، ولكنني في الحقيقة فرحت… لأنّ أمراً ما بدا مفلتاً من ثنائية كان الحبس فيها يثقلني.
صبيّة قصيرة الشعر والقامة، كثيرة الصوت والحركة، تختنق من الغاز المسيل وهي تهرب. استندتْ إلى جدار لتستعيد توازنها، توقّفتُ لأسأل الراكضين عن بصلة، فاقترب عسكريّ يحمل إليها رأس بصل وهي تكاد تقع. رفعتْ رأسها وشدّت على جفونها لترى من يحمل الترياق، فلمّا رأت البدلة، رفضتْه واستجمعتْ قوّتها لتستكمل جريها إلى مساحة آمنة.