أخيرًا، استجبتُ لنصيحة زملائنا وغامرتُ خارج حدود بيروت الخانقة: ذهبتُ إلى مرج بسري، على وجه التحديد، إلى نهر الأولي الذي يفصل بين منطقتي الشوف وجزين. فمن مميزات هذه الثورة أنّها لفتت انتباه اللبنانيّين إلى الحملة ضد مشروع سد بسري التي استمرّت لسنوات. وتمكّنت الثورة من تسجيل انتصار كبير عندما أجبر النشطاء الجرّافات على الانسحاب من الوادي.
سدّوا السدّ وسبّوه
ذهبتُ للتعرّف عن كثب على هؤلاء النشطاء في موقع نضالهم الناجح. لم أكن متأكداً كمؤرِّخ أنّ المسار الذي سلكتُه هو المسار الذي سلكه الرومان عندما ذهبوا إلى دمشق بسبب زلزال عام 551 الذي دمّر مدرسة الحقوق الشهيرة في بيروت. لكنّي كنت أعرف أنّه ليس بعيداً من هنا، في قرية جون، استمتعت اللايدي ستانهوب بالضيوف في ذلك القصر الرائع الذي دُمّر بالكامل خلال زلزال عام 1956. لكن مَن كان يعرف أن مركز الزلزال هذا يقع بين بسري وجون؟
سدّوا السدّ وسبّوه
لم أكن جاهزاً لاستيعاب جمال المكان ولا الدمار الذي كان سيسبّبه مشروع السد ولا للأصداء السياسية في الوادي. لكن حين تصل إلى مخيّم النشطاء الذي أقيم في غابة غنيه على ضفاف النهر من أجل المساعدة في تنظيف المكان والاستماع إلى الخبراء الذين يحذّرون من العواقب البيئية الكارثية للسد، يلفت انتباهك على الفور الفرق الصارخ بين السلسلتين الجبليتين المهيبتين اللتين ترتفعان بشدّة على جانبَيْ موقع المخيّم: لجهة جزين، تمدّ أشجار الصنوبر الطويلة أعناقها بتكبّر نحو السماء على التربة الموحلة. لجهة الشوف، تنذر المنحدرات الوعرة والشديدة الانحدار بالرهبة، وتجعل خيَم النشطاء أكثر عرضة للخطر. هنا، يمرّ نهر الأولي عبر تكوينَيْن جيولوجيَّيْن مختلفَيْن، وقد أحدث تنوعًا طبيعيًا لا يصدَّق، وذلك قبل زمن طويل حتى ما قبل مجيء الرومان.
سدّوا السدّ وسبّوه
لا. يُصِرّ خبير الزلازل في المخيّم على أنّ هاتين الصفيحتَيْن التكتونيّتَيْن يحكمان بعضهما بعضاً منذ بداية الزمن. وبدا لي حينئذٍ أنّ مشروع السد قد يمثّل الجانبين المتهالكَيْن من الفالق السياسي في لبنان المعاصر. ألم أقُم بإعادة تدوير البقايا الباهتة لنسخة من The Daily Star في الوحل سابقاً؟ أولم تلمح عيناي عن بُعد جوانب من علم لحركة «أمل» على قمّة المنحدرات الوعرة؟
سدّوا السدّ وسبّوه
يتبيّن أنّ لكلٍّ من الزعماء السياسيين المتنافسين في الحكومة اللبنانية مصلحة ومطامع مالية في بناء هذا السد الذي يبلغ ارتفاعه 70 مترًا فيما النهر بعمق 50 سم فقط. ويتمّ دعم أولئك الزعماء من قبل البنك الدولي الراغب في تمويل المشروع. البنك الدولي، أيضًا، سيستفيد بقوّة من «قلعة الرمل» هذه وعشرات أخرى مخطّطة لمستقبل لبنان القاتم. وذلك على الرغم من أنّ الخبراء الدوليين واللبنانيين حذّروا مراراً من أنّ هذا السدّ المجنون ليس له أي منفعة وطنية، ومن المرجّح أن يتسبّب في زلزال آخر أكبر بكثير من الذي ضرب المنطقة عام 1956.
سدّوا السدّ وسبّوه
يقوم الأطفال الحفاة الثلاثة القادمون من مزرعة قريبة بقيادة الهتافات في المخيّم: السلطة تُخفي إخفاقاتها السابقة من خلال جني الأرباح من خطط الحلول المجنونة مرّة أخرى. قاموا بترداد شعار مألوف يخاطبون فيه السلطة قائلين: كيف تجرُؤون؟ يبدو أنّهم يهتفون أيضًا لزلزال سياسي لتجنّب وقوع كارثة محتّمة. مثل الابن في فيلم اليمونة للمخرج علي شري الذي عُرض في مهرجان تورنتو السينمائي في عام 2013، يبدو أنّهم يسألون والدهم أيضًا: «لمّا بتسود العتمة، لح تبقى هناك موسيقى؟»، ولكن هل سيتمكّن والدهم من الردّ: «نعم يا بني، بتكون هناك موسيقى بعد العتمة»؟