قبل نحو سنة ونصف، حفلت الشاشات اللبنانيّة ووسائل التواصل الاجتماعي بشعار «لبنان ينتفض» كعنوان يعبّر عن حالة الشارع اللبناني الثائر في ذلك الوقت،. لكن شكّلت تلك الأحداث مناسبة للمصارف لتفجّر قنبلتها في وجه المودعين، ممهّدةً بذلك لحقبة الانهيار المالي الصريح وما تخلّلها من ألاعيب ومكائد، بعد سنوات طويلة من تراكم الخسائر الصامت في النظام المالي.
اليوم، وبعد كل ما جرى من أحداث، تمثل أمامنا معالم البؤس في جميع نواحي الحياة اليوميّة: من طوابير محطات الوقود إلى الدواء المنقطع، وصولاً إلى الشلل الذي يصيب الجميع أمام مسرحيات حاكم المصرف المركزي وما يمثّله من مصالح وحسابات. كل ما يجري لم يعد من علامات تطوّر الأزمة الماليّة فحسب، بل صار دلالة على هزيمتنا الجماعيّة وفقداننا القدرة، أو ربما العزيمة، على المبادرة.
قرار مجلس شورى الدولة
لا يوجد مؤشّر على حجم الهزيمة التي منينا بها أوضح من حجم التفاؤل الذي رافق قرار مجلس شورى الدولة الفارغ بالأمس. أبطل القرار مفعول تعميم مصرف لبنان الذي مدّد العمل بآلية السحب من الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وطلب من المصارف تسديد قيمة الودائع بالدولار النقدي.
عمليّاً، يدرك الجميع أن قراراً قضائياً من هذا النوع لا يمكن أن يسمح للمودعين باسترجاع دولاراتهم من النظام المصرفي، بغياب أي خطة فعليّة لمعالجة الخسائر. كما يدرك الجميع أيضاً أنّ قراراً من هذا النوع جاء للمزايدة على كلٍّ من مصرف لبنان ومجلس النواب، خصوصاً وأنّ الحاكم كان يُعدّ العدّة أصلاً لقرار يغيّر آليّة السحب من الودائع المدولرة، في حين أن مجلس النواب يحاول معالجة المسألة من خلال قانون الكابيتال كونترول مستبقاً قرار الحاكم.
باختصار، أراد مجلس شورى الدولة الإيحاء بأنه خلف الخروج من مرحلة السحب من الودائع وفقاً لسعر المنصّة القديمة، أي 3900 ليرة للدولار، مع مسبق علمه أن هذه المسألة كانت قاب قوسين أو أدنى سواء من خلال قانون أو تعميم جديد من مصرف لبنان، وهو فعلاً ما فعله المصرف مساء اليوم الأربعاء متلقّفاً قرار مجلس الشورى. لكنّ استفراد الحاكم طوال الفترة الماضية بزمام المبادرة، وتقاعس معظم القضاة عن التعامل مع التجاوزات المصرفيّة الفظيعة، جعل من قرار فارغ كهذا مصدر تفاؤل للمودع اليائس.
الاحتياطات ولحظة الاصطدام
أظهرت الميزانيّة النصف شهريّة التي نشرها مصرف لبنان بالأمس، والتي تعبّر عن وضعيّة المصرف كما في نهاية شهر أيار، أن احتياطاته السائلة تدنّت إلى ما دون الـ16.1 مليار دولار. هذا يعني أنّها أصبحت ولأوّل مرّة تحت مستوى الاحتياطات الإلزاميّة التي أودعتها المصارف لديه كضمانة لأموال المودعين. علماً أن الحاكم كان قد أعلن أساساً أن المجلس المركزي لمصرف لبنان يرفض المساس بهذه الاحتياطات الإلزاميّة واستعمالها لدعم استيراد السلع الأساسيّة.
هذا لا يعني سوى مسألة واحدة: وصلت البلاد أخيراً إلى لحظة الاصطدام في ما يخص ملف الدعم. والمطروح أحد خيارين:
- إمّا وقف الدعم التامّ عن جميع السلع الأساسيّة، وما سيعنيه ذلك من صدمة اجتماعيّة قاسية بغياب أي آليّة دعم بديلة جاهزة.
- وإما المضيّ قُدُماً باستنفاد الاحتياطات الإلزاميّة، مع العلم أن هذا الخيار وفقاً لنقابة المحامين يرتّب على مصرف لبنان تداعيات قانونيّة قد تطاول حساباته لدى المصارف المراسلة في الخارج.
معادلة الابتزاز هذه لم تكن نتيجة استعمال الاحتياطات طوال الأشهر الماضية لدعم الاستيراد فحسب، بل كانت ثمن سياسات ممنهجة عديدة: من تفادي إقرار قانون الكابيتال كونترول والاستمرار بتهريب سيولة مصرف لبنان إلى الخارج، إلى تملّص السلطة التنفيذيّة عن إنجاز بدائل معقولة للدعم، وصولاً إلى استنفاد الاحتياطات القابلة للاستخدام قبل معالجة الخسائر واستعادة الانتظام في القطاع المصرفي.
لبنان يغرق… لكن لماذا؟
لكل هذه الأسباب، لم نكن بحاجة لتقرير البنك الدولي لنعرف أن البلاد تغرق وتنزف، خصوصاً وأنّ الغالبيّة الساحقة من الأرقام الواردة فيه منقولة عن تقارير متداولة منذ مدّة. أما السؤال الفعلي، والذي لم يجب عنه التقرير بشكل مباشر، فيتعلّق بالمستفيد المباشر من هذا الغرق، ونوعيّة المصالح التي ندفع كلفتها اليوم.
الإجابة عن هذا السؤال نجدها في تقرير آخر صدر هذا الأسبوع، من بنك عودة نفسه. أكثر من نصف فجوة الخسائر في مصرف لبنان، والتي تراكمت طوال السنوات السبع الماضية، نتجت من عمليات شراء الدولار التي سمح بها مصرف لبنان خلال تلك الفترة، وهي عمليات استفاد منها أصحاب المصارف والمودعين الكبار لتحويل أرباحهم إلى الخارج. أما 25% من هذه الخسائر، فكان مجرّد نتيجة للفوائد السخيّة التي جرى دفعها على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان.
نحن نغرق نعم، لكن ليعوم هؤلاء، وهذا أهمّس ما في الأمر.