«المصائب لا تأتي فرادى». تلخّص هذه العبارة حال البلاد اليوم، وتطورات الوضع على المستويين المالي والسياسي. حمل الأسبوع الماضي أربعة مشاهد تشابه فيها استهتار من يدير الشأنين السياسي والمالي بمآل الأزمة الاقتصاديّة، وتشابه فيها قلّة الاهتمام بحجم الكارثة التي تتّجه إليها البلاد.
تعثّر مشروع البطاقة التمويليّة
بعدما أسهب رئيس الحكومة المستقيلة الكلامَ عن مشروع البطاقة التمويليّة، وسرّبت أوساط استشاريّي الحكومة نص المشروع الذي يفترض أن يُحال إلى مجلس النواب للموافقة، عاد الحديث عن البطاقة إلى نقطة الصفر.
لا يملك دياب حتّى اللحظة أي مصدر خارجي لتمويل البطاقة بالعملة الصعبة. وحذّره مستشاروه من تحويل البطاقة إلى مشروع إفقار جماعي في حال تمويلها بالليرة وعبر طبع النقد. أما حاكم مصرف لبنان، فيصرّ على تصنيفه لما تبقى من دولارات كاحتياطات إلزاميّة لا يمكن المسّ بها، لكون إيداعها فُرض كضمانة للمودعين، ولا يمكن استعمالها لغايات أخرى.
في الواقع، يمكن القول إنّ المشروع فشل قبل انطلاقه، وأفضل ما يمكن انتظاره من البطاقة اليوم هو استعمالها لترشيد توزيع دولارات قرض البنك الدولي وبعض المساعدات الشحيحة الأخرى، ولا يمكن أن تمثّل مشروعاً متكاملاً لآليات دعم بديلة.
حماية دولارات المودعين: بعد خراب البصرة
يرفض رياض سلامة اليوم استعمال ما تبقى من احتياطات في مشروع دياب، بحجّة حماية ما تبقى من دولارات المودعين الموجودة كاحتياطات إلزاميّة، لا بل يبدو أن سلامة يستخدم الحجّة نفسها للخروج تدريجيّاً من مرحلة الدعم.
تُظهر أرقام مصرف لبنان أنّ نحو 62 مليار دولار من دولارات المودعين التي وظفتها المصارف في مصرف لبنان لم تعد موجودة، وقد جرى إنفاقها سابقاً في عمليات المصرف المركزي. وهنا يصبح السؤال مشروعاً عن غاية التيقّظ على مصالح أصحاب الودائع ودولاراتهم المودعة في مصرف لبنان، بعدما لامس مستوى الاحتياطات المتوفرة حدود الـ16.1 مليار دولار، في حين أن ما يقارب الـ3.9 أضعاف هذه القيمة جرى تبديدها دون ارسال أي تحذير للرأي العام، وخصوصاً في مرحلة ما قبل الانهيار المصرفي.
الجدير بالذكر أنّ مسألة وقف الدعم، أو التمنّع عن تمويل البطاقة، تتّصل بأزمة معيشيّة ومخاطر انفجار اجتماعي غير مسبوق. أمّا إنفاق الدولارات قبل 2019، فاتّصل بإصرار غير مفهوم على المضي قدماً بتمويل التحويلات إلى الخارج، دون الإقدام على أي خطوات فعليّة لضبط السيولة الموجودة في النظام المالي.
التدقيق الجنائي: هناك ما يجب ألا ينكشف
في ملف التدقيق الجنائي، عاد الحديث عن إيجابيّة المصرف المركزي وتعاونه مع شركة آلفاريز آند مرسال، من خلال تسويق تسليمه المستندات تباعاً إلى مفوضيّة الحكومة في مصرف لبنان. لكن ما زالت الإيجابيّة التي يتم تسويقها بعيدة عن الوصول إلى أهم فئة من فئات المعلومات: حسابات المصارف التجاريّة لدى مصرف لبنان.
هذه الحسابات، بالتحديد، هي ما يشمل أكثر المعلومات حساسيّة، والتي تتصل بمرحلة الهندسات الماليّة وما انطوت عليه من أرباح وممارسات غير مألوفة في المهنة المصرفيّة.
وإلى أن يشمل التعاون والإيجابيّة هذه المعلومات، من المؤكّد أن هذا التدقيق سيظل بعيداً عن كشف أهم أسباب الانهيار الحاصل اليوم. كما من المتوقّع أن لا توافق شركة آلفاريز آند مرسال على العودة إلى عمليّة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان دون الحصول على هذه المعلومات. مع العلم أن هذا التدقيق لم يعد شرطاً من شروط تحقيق العدالة في توزيع الخسائر فحسب، بل بات اليوم شرطاً من شروط الدعم الدولي، وخصوصاً بعدما تبنّى الاتحاد الأوروبي هذا الملف كشرط حاسم قبل دعم أي مسار من مسارات المعالجة الماليّة في لبنان.
لودريان يعود خالي الوفاض
رغم كل التهديد والوعيد، والتلويح بملف العقوبات، عاد لودريان خالي الوفاض إلى بلاده، في تجلٍّ لفشل واضح للدبلوماسيّة الفرنسيّة في تحقيق أي تقدّم على صعيد تشكيل الحكومة. توحي المعلومات المتوفّرة من اللقاءات التي جرت قبل رحيله، بأن الفرنسيين باتوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى مرحلة فرض العقوبات على الشخصيات اللبنانيّة المتورطة بعرقلة تشكيل الحكومة، ويبدو أن السلطات الفرنسيّة ستستهدف ممتلكات هذه الشخصيات الموجودة على الأراضي الفرنسيّة وأصولهم وحساباتهم.
الإصرار على التعنّت في الملف الحكومي، رغم كلّ هذه الضغوط الدوليّة، يوحي بأنّ تأجيل تشكيل الحكومة بات يخفي ما هو أبعد من مسألة الخلاف على الحصص. حتّى اللحظة، يصعب التكهّن بخلفيات هذه العرقلة، كما يصعب التكهّن بطبيعة التجاذبات التي تجري خلف الكواليس. لكن ما نعرفه هو أن كلفة هذا النمط من التعاطي مع ملف حسّاس بهذا الحجم باتت باهظة اليوم أكثر من أي وقت مضى. باختصار، نحن نعيش على بُعد فترة قصيرة جداً من أصعب مراحل الأزمة، في حين أن هناك من يتعمّد أن يترك البلاد لقدرها دون حكومة قادرة على إدارة المرحلة.