في اليوميّات السياسيّة والاقتصاديّة الأخيرة، لا شيء يبشّر بتحوّل جدّي في مسارات الأزمة، التي باتت تتشابك فيها تراكمات السنوات السابقة بآثار الشلل الضارب في جميع مؤسسات الدولة.
الجمهوريّة تستنزف آخر مقومات الحياة، والجميع ينتظر الوصول إلى الحضيض الأدنى من الانهيار.
الدواء المقطوع
نسبة كبيرة من الصيدليات أقفلت أبوابها، فيما غاب جزء كبير من أصناف الأدوية عن رفوف الصيدليات المفتوحة. أخطر ما في الموضوع، هو أن الأدوية المقطوعة اليوم هي تحديداً تلك التي تتصل بأكثر الأمراض حساسيّة، أي أدوية الأمراض المزمنة التي يمكن أن يؤدّي انقطاعها إلى كارثة صحيّة لا تُحمد عقباها.
ببساطة، قرر مصرف لبنان تعديل آليّة الدعم من طرف واحد، مشترطاً استحصال الشركات المستوردة على موافقات مسبقة قبل الاستيراد. ويتعامل المصرف بانتقائيّة مع طلبات الاستيراد، ويقنن عدد الموافقات الممنوحة إلى أقصى حد. باختصار، يحاول مصرف لبنان بهذه الطريقة إطالة الفترة المتبقية قبل استنفاد الاحتياطات القابلة للاستخدام، فيما يصر المجلس المركزي للمصرف على عدم المساس باحتياطات المصارف الإلزاميّة المودعة لديه.
يمكن أن نتخيّل بسهولة ما سيقبل من أحداث هنا:
- مرحلة انتقاليّة قاسية، سمتها الأساسيّة انقطاع الدواء وشحّ المستلزمات الطبيّة، وسوق سوداء تتلاعب بأكثر الحاجات حساسيّة.
- الإنتقال إلى رفع الدعم السريع بعد استنفاد الاحتياطات، مع ما يعنيه ذلك من غلاء في سعر الدواء، وعجز في قدرة المؤسسات الضامنة على تغطية الأسعار.
ما ندفعه اليوم هو ثمن لعبة شراء الوقت وتقاذف المسؤوليات، التي مارسها كلّ من مصرف لبنان والحكومة طوال الأشهر الماضية، قبل الوصول إلى مرحلة الصدمة العنيفة هذه.
تقنين المحروقات
بالمنطق نفسه، يدير مصرف لبنان لعبة تقنين تمويل استيراد المحروقات. طوابير السيارات أمام محطات الوقود دلالة على ذلك، وإقفال المحطات أيضاً. أما الانفراجات المؤقتة، فباتت مرتبطة بمواعيد تفريغ ما تيسّر من شحنات بنزين. مؤسسة كهرباء لبنان ضحيّة أخرى لهذا الواقع، خصوصاً أن تقنين الكهرباء أصبح مرتبطاً بشكل أساسي بشحّ الفيول المتبقّي لتشغيل المعامل.
أوساط المستوردين تشير إلى أن الأزمة ستستمر لأكثر من شهر من الآن، خصوصاً أن مصرف لبنان لم يطرح حتّى اللحظة أي تصوّر بديل يمكن أن يعالج أزمة شح الدولارات التي يوفّرها لدعم استيراد المحروقات. أما نهاية هذا المسلسل اليوم، فستكون على غرار نهاية أزمة الدواء: رفع الدعم عن استيراد المحروقات بمختلف أشكالها، وإحالة الطلب على الدولار للاستيراد إلى منصّة مصرف لبنان المستحدثة.
لكن رفع الدعم عن المحروقات لن يكون بلا كلفة:
- سيعني ذلك غلاء غير مسبوق في كلفة التنقّل، وتشغيل مولدات الكهرباء الخاصّة، وإذا شمل ذلك المحروقات المخصصة لمؤسسة الكهرباء فسيطال ذلك فاتورة كهرباء المؤسسة على الأسر.
- غلاء المحروقات، سيمثّل العامل الأكثر تأثيراً على معدلات التضخّم، لكونها تدخل عمليّاً في فواتير مختلفة ومتنوعة في جميع القطاعات.
لم يبصر النور حتّى اللحظة أي تصوّر رسمي لكيفيّة التعامل مع هذه المرحلة، ومن المستبعد أن يحصل ذلك في الفترة القصيرة جدّاً المتبقية قبل استنفاد الاحتياطات القابلة للاستخدام.
وعود فارغة
المشهد الثالث، الذي يؤكّد استزافنا لكل مقومات الصمود، هو الخفّة التي تُدار بها كل أزمات القطاع المالي، والمعتمدة على قدر كبير من الوعود الفارغة، أو على الأقل الوعود العبثيّة التي تنساق مع أي خطة أو رؤية للحل الشامل. مصرف لبنان وعد المودعين بتقسيط أموالهم بمبالغ تصل إلى حدود الـ25 ألف دولار للحساب الواحد، في حين أن صافي موجودات المصارف في الخارج يسجل عجزاً تتجاوز قيمته المليار دولار أميركي.
هل سينفق مصرف لبنان احتياطاته لدفع هذه المبالغ، وشراء صمت المودعين مقابل جزء زهيد من الودائع، في مرحلة رفع الدعم وما سيصاحبها من تداعيات معيشيّة مؤلمة؟ هل يراهن مصرف لبنان على فترة تفاوض طويلة مع المصارف لن تنتهي حكماً بدفع هذه المبالغ، فيما يتمّ ضبط غضب الشارع بالوعود الفارغة؟
لا أحد يعلم أفق هذه الوعود، لكنّ الأكيد أن عبثيّتها لا تعكس أي خطة أو رؤية للحل، بل تعكس استمرار نهج شراء الوقت، وتأجيل التعامل مع عوامل التأزّم الكامنة في النظام المالي. والأكيد أيضاً، هو أن كل ما يجري على مستوى التعامل مع أزمات الدواء والمحروقات والكهرباء وغيرها يذهب في الإتجاه نفسه. وفي هذا الوقت، تنزف الجمهوريّة ببطء، وتفقد كل ما تبقى من مقومات حياتها.