في سياق الحديث عن «خطاب السلطة»، لا يكفي حصرًا البحث في الظاهر منه، أو في مقارنة أجزائه على اختلاف الزمن، كمثل انتقال رياض سلامة، في خطابه الأخير، من ردّية «ودائعكم بخير» إلى المصارحة بودّعوا دولاراتكم، واسحبوها بالليرة. أو مثلاً في انتقاله من خطاب المظلومية إلى خطاب الزجر والإعابة، عيب عليكم... شو ما في غير مصرف لبنان؟
فالخطاب أحيانًا يتعلّق بصيغة طرح الاشكالية، أو بالأحرى طريقة انتقاء الاشكالية عينها.
ففي معالجة قضية الدعم مثلاً:
هل يُعقَل أن نكون قد انتظرنا لحظة المسّ بالاحتياطي الإلزامي للمصرف لبحث مسألة الدعم؟ ألم يكن المعنيّون على دراية بذلك ما قبل اللحظة هذه؟ منذ أشهر على الأقل؟
بلى، كانوا يعلمون، ووقفوا متفرّجين. وذلك لا يتعدّى كونه جريمة إضافية تُضاف إلى سجل سلطة الاحتلال الحافل بالخطوات الممنهجة لتبئيس الشعب اللبناني. فالسلطة راوغت وراوغت أشهرًا. بعزَقَت المزيد من العملات الصعبة والودائع في سبيل إطفاء خسائر المصارف الخاصة والرساميل الكبيرة، إلى أن بلغت حدًّا يُفتَرض بها أن تتصرّف باحتياطي المصرف المركزي.
عند هذه النقطة، طرحت السلطة الموضوع على المواطنين بمنطقٍ ابتزازيّ مباشر، عبر طرحها كإشكالية بين قطبَين: «لا لإنفاق احتياطي المصرف على الدعم لأنّه أساساً من أموال المودعين». بذلك، توضَع المسألتَان بتضادٍ كامل:
الدعم ضدّ الودائع.
علمًا أن الأزمة الفعلية، لا هي من الدعم، ولا هي من الودائع.
طيلة الأسبوع الماضي، وقبل انعقاد جلسة اللجان النيابية المشتركة المخصّصة لهذا الغرض، أرادت السلطة، كي تتهرّب من مسؤولياتها، أن تطرح الموضوع بهذا الشكل: أن تحرّض على الدعم بدايةً. ثم تترك للتحريض أن يتدحرج بين الأوساط. يعني أن تبلغ نقطة يتخلّى بها الرأي العام نفسه عن الدعم.
«يقول الناس، لا نريد أن ندعم الناس، كي لا نُطَيّر ودائع الناس»، وتلك هي السردية التي تجاهد السلطة لإرسائها، وهي ملأى بالمغالطات.
المغالطة الأولى هي في المفاضلة التي نُجبَر على إقامتها هنا: أنريد استمرار الدعم على استهلاكنا، أم نريد ودائعنا؟ يعني هل ننحاز للأكثر فقرًا؟ أم للمودعين «العاديين» الذين أمّنوا أموالهم من قوّة عملهم- لا من الرَيع؛ فأولئك، كبار المودعين والمضاربين، لا خوف على دولاراتهم، فهي أصلاً صارت بمعظمها خارج البلد أو استعاضوا عنها بعقاراتٍ وأسهم واستثمارات.
المغالطة الثانية، بعد حصر الخيارات بثنائيةٍ ابتزازية يصعب فعلًا حسمها، هي ما ينتج عن الصيغة المطروحة من تغييبٍ لمسبّبات الأزمة، وكأنّنا فجأة أصبحنا أمام هذا الواقع من عدم. وكأنّ على المودعين أن يتحمّلوا مسؤولية استمرار الدعم، أو على المدعومين أن يتحمّلوا مسؤولية تحصيل الودائع، وفي الحالتَين، أخرجت السلطة نفسها من دائرة المسؤولية.
وعليه، تصبح المغالطة الثالثة، في تصوّرنا، أنّنا اذا ما لعبنا فعلًا لعبة السلطة وفاضلنا بين الخيارَين، سنحصل بالأقل على خيارٍ منهما، وهذا ما لن يحصل! فنحن ندرك ألّا ودائع نسحبها حتى لو توقّف الدعم، ولا دعمَ مستداماً نحصل عليه- بشكلٍ عادل- حتى لو استنزفنا الودائع؛ وبالتالي، فإنّ المواطن العادي مبعوص بالحالتَين، إن اختار المفاضلة، ومبعوص حتى دون اختيارها.
فوق كل ما ذُكر، تبقى الإشكالية الأخطر هي التالية: كيف نناقش الدعم مع 3 أسعار صرف مختلفة؟ أيّ نقاش عن استمرار/ عدم استمرار الدعم، يستوجب بالضرورة اعتماد سعر صرف موحّد، وهذا ما يراوغ الحاكم للتهرّب منه.
بالمختصر، واقعيًا، بعد الاطّلاعٍ على ما تيسّر من أرقامٍ متداولة: ندرك أنّنا في نقطةٍ حرجة بحقّ، وأن الاحتياطي المتبقّي يكفي لأشهرٍ فقط. ندرك أنّه فعلًا من ودائع الناس، وأنّ لهم حق بها، ولكنهم بالمقابل لن يحصلوا عليها في كل الحالات. ندرك هذا كلّه. لكن ذلك لا يمنع تمسّكنا برفض المفاضلة بين الدعم والودائع ودحض مقاربة السلطة، والمطالبة بالحصول على الاثنين معًا- وليتحمّل من استفاد من الانهيار، مسؤولية العجز القائم.