الحملات الأسبوعية
بات الأمر مملّاً. حملات تافهة دوريّة تُدار من تلفزيون المصارف المعروف بالـMTV، وبالأخص برنامج «صار الوقت» للأخوين غانم، ضدّ منصات إعلامية مستقلة، محاولةً تحميلها مسؤولية الانهيار المالي. ومع كل أسبوع يمرّ، تكبر «المؤامرة» التي يكتشفها استقصائي بيت المرّ، حتى باتت التهمة، حسب الإخبار المقدّم من بعض المحامين المقربين من هذه الحملة، تشمل «جرائم النيل من مكانة الدولة المالية وضرب الاستقرار النقدي ما أدّى إلى انهيار قيمة العملة الوطنية والحصول على تمويل خارجي لقاء هذه الأعمال». كان الأمر ليبدو مُضحكًا لو لم تتحرّك النيابة العامة، بعد الضغوط الإعلامية التي مارسها تلفزيون المرّ، حتى تصبح المزحة سمجة.
كان عنوان الحلقة الأخيرة من مسلسل التهويل المصرفي، تشجيع هذه المنصات على تخلّف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند عام 2020، ما أدى إلى نشوب الأزمة الماليّة الراهنة، حسب عباقرة النقّاش. لا داعي لمحاولة دحض هذه النظرية التي استندت إلى عنوان مقال من هنا وجملة في تصريح من هناك.
فللتذكير، كان اتخاذ قرار وقف السداد موضعَ إجماع سياسي بين الرئاسات الثلاث يومها، ولم يكن قرارًا عابرًا تشجّع عليه منصّات إعلاميّة مستقلّة. وجاء هذا القرار بعد أكثر من 5 أشهر على توقّف المصارف عن دفع الودائع، ونحو 4 سنوات على فقدان الدولة قدرتها على الاستدانة من الأسواق العالميّة، بعدما تبيّن حجم أزمة السيولة في القطاع المالي. كان التوقّف عن الدفع نتيجةً لتفاقم جملة من المؤشّرات الماليّة والنقديّة قبل سنوات، لا سببًا للأزمة بحد ذاته. لكن ما تحاوله بعض المصارف من وراء حملة كهذه، هو تحوير الحقيقة من أجل فرض رواية جديدة للأزمة، مفادها أن المصارف بريئة من الانهيار المالي الذي تتحمّل مسؤوليته الدولة.
هذا ليس إلّا الحلقة الأخيرة في مسلسل طويل من محاولة تبرئة المصارف من مسؤولياتها عن الانهيار المالي الذي دمّر مستقبل بلد بأكمله.
الحرب الدائرة على سردية الانهيار تأتي في لحظة حقيقة، تمّ تأجيلها لسنوات، يواجه فيها مَن تسبّب بالأزمة، من مصارف ومصرف لبنان وحكومات، استحقاقات مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو رفع السريّة المصرفيّة. وما السجالات الإعلامية إلّا غطاء لهذا الصراع حول سردية الانهيار في لحظة استحقاقات مصيرية.
القلق المستجدّ للّوبي المصرفي
كان اللوبي المصرفي قد اعتبر نفسه منتصرًا مع تعيين مرشحه لحاكمية مصرف لبنان. لكنّ الأمور لم تجرِ حسب توقعاته. فجاءت مؤشرات مقلقة، أكّدت أن سردية المصارف لم تنجح بعد في فرض هيمنتها، ما يفسّر التصعيد الإعلامي في وجه الإصلاحات الاقتصاديّة المطلوبة لمعالجة الأزمة المصرفيّة، وفي وجه الأصوات الإعلاميّة والاقتصاديّة التي تدفع منذ بداية الأزمة باتجاه هذه الإصلاحات. لكنّ الضربة أتت من الخارج، وذلك على جبهتين:
- جولة نائبة المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، التي أبدت إصرارًا على تنفيذ شروط صندوق النقد، المرتبطة بمسار التعافي المالي، بنفس قدر إصرارها على المعالجات الأمنيّة المرتبطة بسلاح حزب الله.
- جولة بعثة صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع، التي أعادت التذكير بحقيقة واضحة: لقد باتت المساعدات الخارجيّة، بما فيها تلك التي سيتم تخصيصها لإعادة الإعمار، مربوطة ببرنامج صندوق النقد نفسه، وبالشروط التي وضعها.
والشروط المطلوبة من صندوق النقد باتت معروفة: إقرار التعديلات على قانون سريّة المصارف، وإقرار قانون إصلاح وضع المصارف، أو ما بات يُعرف بقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فما يختبئ وراء الحملة الأخيرة للـMTV وسائر إعلام المصارف هو التفاوض حول هاتين المسألتين اللتين تطالان مصالح كبار المسيطرين على القطاع المصرفي، وأرباحهم المشبوهة التي جرى تحقيقها في الحقبة التي سبقت الانهيار في أواخر العام 2019.
قانون إصلاح وضع المصارف
يحدّد مشروع «قانون إصلاح وضع المصارف» الذي ناقشته الحكومة، ويفترض أن تحيله إلى المجلس النيابي، الآليّات التي يمكن على أساسها تصنيف المصارف بين تلك القادرة على الاستمرار، وتلك التي ستخضع لعمليّات التصفية أو الدمج. كما يحدد كيفيّة تقييم وضع المصارف، بعد تدقيق ميزانيّاتها، ونوعيّة الخطوات التي يمكن اتخاذها لإصلاح وضع المصارف التي ستستمر بالعمل لاحقًا. باختصار: يعتبر هذا القانون الإطار التشريعي الذي يرعى عمليّة إعادة الهيكلة، عبر إعطاء مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف الأدوات الكفيلة بإدارة هذا المسار.
في صفحات هذا القانون، وفقًا للمسوّدة الأوليّة التي تتمّ مناقشتها في الحكومة، ما يفسّر قلق اللوبي المصرفي من مضمونه:
- يتحدّث مشروع القانون أولًا عن إمكانيّة العودة بعمليّة التدقيق إلى عشر سنوات للوراء، مع إمكانيّة إطلاق الملاحقات القضائيّة بحق إدارات المصارف التي تورّطت بسوء إدارة متعمّد أو أنشطة احتياليّة.
- يتحدّث مشروع القانون عن إمكانيّة إجبار أصحاب المصارف على إعادة بعض أنواع الأرباح التي جرى تحقيقها خلال سنوات ما قبل الانهيار، وخصوصًا تلك التي لا تتناسب مع العرف المصرفي. وهذا ما يشمل طبعًا الهندسات الماليّة التي جرى تنفيذها بين عامَيْ 2015 و2019، والتي ضخّت أرباحاً غير طبيعيّة لحساب أصحاب المصارف، على حساب كتلة الخسائر التي تتراكم في مصرف لبنان.
- يعطي القانون الهيئة المكلفة بإدارة عمليّة إعادة الهيكلة صلاحيّات واسعة، تصل إلى حدود طلب إعادة هيكلة ملكيّة كل مصرف، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية إجبار المصارف على إدخال مساهمين جدد، برساميل طازجة لتعويم القطاع، ما قد يهدّد سيطرة المساهمين الحاليين.
- عند اتخاذ قرار وضع اليد على المصرف المتعثّر، غير القادر على تأمين متطلبات إعادة الرسملة، يمكن للهيئة المكلفة بإعادة هيكلته تغيير كل أو بعض أعضاء مجلس إدارته أو إدارته العليا.
- يستحدث مشروع القانون صلاحيّات واسعة لهيئة الرقابة على المصارف، للسماح لها بإدارة عمليّة تدقيق شاملة في كل مصرف لبنان، بهدف تقييم إمكانيّة استمرار المصرف. وفي حال اتُّخِذ القرار باستمرار المصرف، تقيّم اللجنة حجم الأموال التي ينبغي ضخّها من قبل المساهمين الحاليين، أو مساهمين جدد، لتعويمه.
كل ما سبق ذكره، يمثّل الحدّ الأدنى من الخطوات المطلوبة لاستعادة الملاءة والسيولة في القطاع المصرفي. غير أنّ القانون، كما هو واضح، ينطوي على الكثير ممّا يهدّد مصالح المصرفيين. لذلك تحاول السرديّة التي يروّجها لوبي المصارف عرقلة إقرار هذا القانون واستبداله بتشريع آخر لم تتمّ صياغته بعد، تحت عنوان «قانون إعادة الانتظام للقطاع المالي».
استكمال رفع السريّة المصرفيّة
الاستحقاق الثاني الداهم هو استكمال رفع السريّة المصرفيّة، من خلال مشروع القانون الذي أحالته الحكومة إلى المجلس النيابي، فيما يُفترض أن تجري مناقشته في اللجان المشتركة في منتصف الأسبوع المقبل. وكما هو معلوم، كان المجلس النيابي قد أقرّ عام 2022 تعديلات سابقة، تمنح السلطات الضريبيّة والقضائيّة ومصرف لبنان بعض صلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة. غير أنّ التعديلات الإضافيّة اليوم تكتسب أهميّة استثنائيّة من ناحيتين:
- تمنح مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لأي غاية رقابيّة ترتبط بعملهما، من دون حصر هذه الصلاحيّة بعمل المصرف أو اللجنة على إعادة هيكلة القطاع المصرفي كما كان الحال سابقًا بحسب تعديلات العام 2022. وهذا ما يعني تغييرًا جذريًا في الأطر الرقابيّة التي ترعى علاقة المصارف بمصرف لبنان ولجنة الرقابة.
- ينص التشريع الجديد المقترح على تحديد رفع السريّة المصرفيّة بمفعول رجعي يصل لحدود عشر سنوات قبل العام 2022، ما يعني كشف السريّة المصرفيّة لجميع العمليّات الماليّة التي حصلت منذ العام 2012. وهذا ما يتكامل طبعًا مع مضمون مشروع قانون إصلاح وضع المصارف، الذي ينص على إمكانيّة التحقيق والملاحقة القانونيّة لهذه الفترة الزمنيّة، كما ينص على إمكانيّة استعادة الأرباح من المساهمين.
لذلك شنّ إعلام المصارف حملته على تعديلات هذا القانون، مدركًا خطورته على مصالح هذا اللوبي.
الصراع ليس بين وسائل إعلامية، وليس مجرّد صراع بين قطاع مصرفي ومَن يقف في وجه تهرّبه الدائم من المسؤولية. هو بعمقه صراع حول العدالة في بلد اعتاد على التهرّب منها. الخيار اليوم واضح: هناك، من جهة، تفاهات إعلامية ونظريات مؤامرة بلهاء ومصارف تحاول الدفاع عن مكتسباتها على حساب الاقتصاد والناس، وهناك، من جهة أخرى، مطلب بسيط: العدالة كمخرج من الأزمة المالية وضمان عدم تكرارها.