سواء أعجبتنا هذه المسألة أم لا، منح القانون مصرف لبنان أقدس ما تملكه الدولة من إمتيازات سياديّة: خلق النقد والحفاظ على قيمته، والذي به تُحدّد القدرة الشرائيّة لأجور المقيمين في البلاد. كما أعطاه القانون أيضاً صلاحية السهر على سلامة النظام المالي الذي يقوم على مدخرات المقيمين والمهاجرين، وجنى أعمارهم.
قد لا تعجبنا هذه المسألة أيضاً، لكنّها أمر واقع: يُسمّى رأس المصرف حاكماً لأن القانون يختصر في شخصه صلاحيات تُوزَّع في العادة على سلطات مختلفة. فهو يملك صلاحيات شبه قضائيّة، من خلال الهيئة المصرفيّة العليا التي يرأسها والتي تحاسب وتصدر أحكامها على المؤسسات الماليّة، ومن خلال هيئة التحقيق الخاصّة التي تتحرّى وتفتي بمسائل السريّة المصرفيّة وجواز رفعها، والتي لا يمكن نقد أو إستئناف ما تفتي به. وهو يملك صلاحيات رقابيّة من خلال إشرافه على لجنة الرقابة على المصارف. وهو يملك وصلاحيات تنفيذيّة من خلال المجلس المركزي الذي يرأسه، والذي يقرر السياسة النقديّة للبلاد.
هو المؤتمن الأوّل والأخير على تنفيذ قانون النقد والتسليف. لا أحد في جميع مؤسسات الجمهوريّة يملك القَدْر الذي يملكه الحاكم من حصانة مطلقة وإستقلاليّة وتنوّع في صلاحيّاته.
لكن ما العمل حين يكون الحاكم نفسه أوّل المتورّطين بنكبات أفضت إلى تهشيم قيمة العملة المحليّة وتبديد ودائع اللبنانيين؟ وكيف يوفّق النظام بين الحصانات الكبيرة التي يمنحها للحاكم لحمايته من أوساخ السياسة، والحصانات التي يحتاجها اللبنانيين لـحمايتهم من أوساخ الحاكم نفسه؟
ما كشفته التحقيقات السويسريّة ليس تفصيلاً.
بمعزل عن قيمة التحويلات أو مصدرها، نحن أمام حاكم مصرف مركزي عمد خلال العام 2016 وما قبله إلى إستعمال إحتياطات المصرف الذي يرأسه لتهريب أمواله إلى الخارج، في الوقت الذي كان ينسج الهندسات الماليّة لإمتصاص سيولة المصارف التجاريّة، وسحبها من الخارج إلى خزائن مصرفه. مع العلم أن الشبهة الأساسيّة التي تحيط بتلك الهندسات تتعلّق باستعمال أرباحها لشراء دولارات النظام المالي وتحويلها للخارج. وحتّى اللحظة، لم يفصح الحاكم للرأي العام عن طبيعة العمليات التي قام بها وخلفيتها.
كل ذلك يقودنا إلى الإعتقاد بأن الحاكم لم يكن فقط الشخص الذي هندس إستفادة حلقة ضيقة من المستفيدين من إجراءات ما قبل الإنهيار، بل كان عمليّاً أحد المستفيدين الكبار منها، وعلى حساب الغالبية الساحقة من المودعين في النظام المصرفي.
هذا المتورّط، هو أيضاً الشخص الذي إستعمل نفوذه المطلق كحاكم مصرف مركزي لـعرقلة التدقيق الجنائي وما يمكن أن يكشفه من هذا النوع من العمليات الغامضة والمشبوهة التي سبقت الإنهيار المالي.
وهو نفسه الشخص الذي يرأس هيئة التحقيق الخاصة، التي رفضت على نحو متكرر رفع السريّة المصرفيّة حتى عن العمليات والتحويلات المشبوهة التي تلت إقفال المصارف بعد 17 تشرين الأوّل 2019.
هل يوجد اليوم شك بأن وجود الحاكم كمتورّط أساسي في العمليات المشبوهة، وكصاحب نفوذ وحصانة مطلقة مكرّسة قانوناً، بات عائقاً أساسياً أمام أي معالجة للإنهيار القائم؟
هل يوجد شك بأن وجود الحاكم بات عقبة أمام كشف حقيقة خسائر مصرف لبنان، والأسباب التي أدت إليها؟ مع العلم أن التدقيق في ما جرى في مصرف لبنان قبيل الإنهيار المالي، بات شرطاً أساسياً لا يمكن تجاوزه لجميع الجهات التي يراهن عليها لبنان لتقديم رزم الدعم: من صندوق النقد إلى المبادرة الفرنسيّة وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. هل ستملك الحكومة المقبلة أي مصداقيّة في مفاوضاتها مع الدائنين الأجانب بوجود الحاكم، وما يملكه في سجله من إرتكابات، وما يقوم به حالياً من مناورات مستعملاً موقعه ونفوذه؟ مع العلم أن هذه المفاوضات ستسعى إلى إقناع الدائنين بجدية خطة الحكومة للتعافي، في مقابل موافقة الدائنين على إعادة هيكلة ديونهم وفق فوائد وإستحقاقات جديدة، وبحسومات كبيرة على أصل الدين. كيف ستقنع الحكومة هؤلاء الدائنين بجدية خطتها، بوجود الحاكم الذي زرع السكين المسموم في خاصرة الدولة في لحظة تفاوضها مع صندوق النقد خلال السنة الماضية؟
لكلّ هذه الأسباب، لا يوجد حلّ بوجود رياض سلامة. ولا يمكن التفكير بطريق للخروج من الإنهيار قبل رحيله.
ما نحتاجه اليوم ليس حاكماً ماكراً ومقامراً، تعلّم أصول جمع الثروة لمصلحة حيتان البورصة في مصرف ميريل لنش. ما نحتاجه ببساطة هو حاكم نزيه، تليق به قدسيّة الصلاحيّات التي منحها القانون لموقعه، ويتقن إستعمالها لمصلحة عموم المقيمين من الفئات الأقل قدرة على مواجهة الإنهيار، ولو كان لدينا تحفظات على فكرة منح الحاكم كل هذه الصلاحيات والحصانات.
رحيل رياض سلامة بات ضرورة.