لم يشكّل نهار السبت عودةً لوضوح الشارع، بقدر ما كان استعادةً مكثّفة لمشاهد تظاهرات الأشهر الماضية، استعادة خارجة عن أيّ سياق وفاقدة لأيّ إيقاع. فتتالت الشعارات المعلّبة والشغب المتوقّع والخلافات المعتادة ومن ثمّ الفتن المسائية، لتلخّص أبرز محطات احتجاج المرحلة السابقة ببضعة ساعات يتيمة. وفي آخر النهار، تبيّن أن إلحاح العودة إلى الساحات لم يكن إلاّ تنافساً على «شكل» الثورة في محاولةٍ للعودة إلى زمن ما قبل الوباء والانهيار، أو زمن ما قبل الشَّلَل.
بدأ التنافس على «شكل» الثورة بسجال حول «هويّة» الثوّار الحقيقيّين، أي هوية مَن يحقّ لهم، في هذا اليوم المستعاد، أن يتكلّموا عن ذاكرة الثورة.
فأتت دعوات التظاهر من «أحزاب سلطة معارضة»، لاقتها بعض «المجموعات المتسلّقة على الثورة» التي فرضت المشاركة على مجموعات أخرى أكثر ثورية، وتواجهت في آخر النهار مع «قوى الثورة المضادة». لم تكن السلطة في الواجهة، بل انحسر التنافس بين القوى المعارضة على اسم الثورة، بين أفراد ومجموعات وأحزاب لم تعد تجد تعريفًا لذاتها إلّا في علاقتها بهذه العلامة. ربّما يمكن اعتبار هذا الاستحواذ للثورة على المخيّلة السياسية أحد نجاحاتها، ولكنّه قد يكون نجاحاً مُشِلّاً.
بات السجال على الهوية مدخلًا للخلاف على المطالب، بين حكومة انتقالية وانتخابات مبكرة وثورة شعبية. بيد أنّ سقف المطالب أصبح يتحرّك بعلاقة معكوسة مع القدرة السياسية.
فالمطالب المتناقضة تنمو من سؤال واحد، وهو تعثّر الثورة. وفيّ ظل صمود السلطة، من غير المفهوم كيف ستفرض القوى المعترضة هذا المطلب أو ذاك، خاصّةً بعد فشل نهار السبت. هنا أيضًا، قد تكون الشعارات أقرب إلى مادّةٍ لفرز القوى المنتفضة أكثر ممّا هي مطالب موجّهة لسلطة لم تعد مكامن صمودها في الشارع. فالانتقال إلى مستوى «المطالب السياسية» قد يكون ضرورياً، ولكنّه قد يكون انتقالاً مُشلّاً.
وهناك دائمًا «جماعة الـ1559» وسلاح حزب الله، مَن يعتبر نفسه منذ عام 2005 كـ«إم الصبي» لأي احتجاج أو اعتراض في أي دولة عربية. هنا بات الشَّلل منطق السياسة، في تكرار مملّ للجواب ذاته على أيّ سؤال أو مطلب: سلاح حزب الله.
كما استُبدِلَت السياسة عند «جماعة الـ1559» بفنّ الكلام، وكأنّ السلاح «تابو» ينتظر البوح عنه لكي تزول سيطرته على البلاد.
ولتلك الجماعة جماعتُها المضادّة التي تهبّ كلّ مرّةٍ للدفاع عن السلاح، وتخوّن كلّ ما يشكّك بالإبادة السورية. في زاوية من الساحة، يتصارع الطرفان معتبرين أنفسهم في وسط الحدث، غير مُدركين أنّ الشلل قضى عليهم وجعلهم كومبارس في مشهدية الثورة، مهما كانوا جدّيين بإتمام أدوارهم.
ولكن قد يكون الشَّلَل أوضح عند من انسحب من الساحة، معترفًا بأنّ هذا النهار لم يكن إلّا استعادةً مُضجرة لحدث سابق. ولهذا الشلل أدبياته أو ركائزه: المطالب الاجتماعية والتنظيم، وقد تحوّلت هاتان الركيزتان مع مرور الزمن إلى مقوّمات علاجية لمواجهة أسئلة سياسيّة.
فباتت المطالب الاجتماعية مهرَباً من الانقسامات السياسية، والتنظيم ردّاً سحريّاً على سؤال الفعالية السياسية.
واستكمالًا لهذا الشلل، ثمّة نظرة مؤامراتية ترى في التوتّرات الطائفية مجرّد تلاعب من قِبَل سلطة شريرة يمكنها من خلال كلمة أن تشعل حربًا أهلية، من كورنيش المزرعة إلى الناعمة، مرورًا بعين الرمانة والشياح. وهكذا، فإنّ هشاشة الثورة التي تنحرف بسبب «كلمة» تنتهي حتميًا بحالة من الثورية المشلولة.
قد تكون حسَنَةُ استعادة يوم السبت أنّها أظهرت إمكانية تحوّل «الثورة» إلى أيقونة جامدة، لها طقوسها ورموزها وحدودها، تستعاد دوريًا، ربّما لإفراغها من أي حيويّة سياسية.
لم تشكّل العودة إلى الشارع عودةً إلى الوضوح كما أراد بعض الخائفين من الساحات الفارغة. أو ربّما أدّت إلى وضوح من نوع آخر، وضوح مُشِلّ، وضوح «ثورة» باتت تتحوّل إلى مجرّد أيقونة.