تحليل ثورة تشرين
خليل عيسى

طرابلس أو الوطنية اللبنانية الجديدة

1 كانون الأول 2019

من يعرف الطرابلسيين جيّدًا لا يتفاجأ بتزعّمهم الزخم الرمزيّ للثورة خلال أسابيعها الأولى. فوحده العرض المدني يوم الاستقلال، في ساحة الشهداء، خطف الأضواء من «أمّ الفقير»، قبل أن تعود المدينة لتحتلّ موقعها المتقدّم مرّةً أخرى.

من يقضِ يومه في ساحة النور يرَ أنّ شاغليها هم عيّنة أمينة من النسيج الاجتماعي للمقيمين في المدينة. فتتوزّع الطبقات الوسطى على أطراف الساحة بينما تحتشد في قلبها الطبقات الفقيرة، وهي قلّة من العمّال وأكثرية ساحقة من العاطلين عن العمل. وتقع إلى جانب كلّ هؤلاء خِيَم «الحوارات السياسية» وتجمّعات المثقّفين كما لو أنّ تقسيم العمل بين ما هو ذهنيّ ويدويّ يتجسّد في الجغرافيا البشرية للساحة نفسها.


بعكس بيروت التي جرى فيها مَسخٌ قسريٌّ للهوية عند قطاعات واسعة من المقيمين فيها سبّبته حرب أهلية ثم ما عُرف بـ«إعادة الاعمار»، لم تتعرّض طرابلس للمسخ الهويّاتي بالشدّة نفسها، إذ جاء الخراب العمراني والاجتماعي فيها أقلّ هولًا. لذا يمكن المخاطرة بالزعم أنّ طرابلس هي المدينة الكبرى الوحيدة في لبنان التي بقيت تشبه نفسها عمرانيّا وثقافيّا، حتى في أسوأ ايامها. وما يحدث الآن ليس سوى انتقام ذاتٍ طرابلسية حافظت على نفسها قسراً، بعدما فرض زعماء المدينة على سكّانها التكلّس لكي يتمّ استعمال هذا الشعور من قبلهم في المناقصات الزعاماتية والتحاصصية التي كانت تجري في بيروت.

كان فقراء طرابلس، وما زالوا، هم الأجساد التي رسمت خطّ الاستمرارية مع الماضي. لكنّ هذا الماضي شكّل نقمةً عليهم بمقدار ما كان نعمة. فقد واجه الطرابلسيون أسئلةً تكاد أن تكون وجوديّة فيما اعتبرها كثيرون من الأجيال السابقة من المسلّمات. ومن هذه المسائل، كان هناك المكافئ السياسي لفكرة الانتماء العربي عندما نزعوا إلى الوحدة مع سوريا خلال الخمسينيات من القرن الفائت، أو حين أصبح الإسلام الأيديولوجي لاحقًا جسرًا سياسيًا تقاطعت من خلاله علاقتهم مع الدولة كما مع ذاتهم، وهي علاقة التبس فيها مجالا العام والخاص عقب هيمنة تنظيمات تابعة للإخوان المسلمين على نخب المدينة وشرائحها منذ ثمانينيات القرن الفائت.

ولطالما حوّلت فترات الانحطاط الاقتصادي- السياسي هذه الأسئلة الوجودية إلى فخّ يُنتج شعورًا مستديمًا بالشفقة على الذات عند عموم الطرابلسيّين، تتحوّل فيها عملية لوم المركز البيروتي على كلّ مصائب المدينة إلى بديل لانتفاضة مستحيلة على زعمائها، فيتمّ اختبار راهنها كقدر محتوم. تحوّل ذلك إلى تمرين كلاميّ هدفه إثبات العظمة الغابرة لمدينة صار يعتقد كثيرون من مثقّفيها أنّ دولة لبنان الكبير لم يكن اختراعها سوى مؤامرة دؤوبة حيكت ضدّها، في حين أنّه في العام 2011 مثلاً كان ستّة من نوّابها، بينهما مليارديريّان، وزراء في حكومة رئيسها نجيب ميقاتي الطرابلسي.


بعد 17 تشرين الأوّل، تغيّر كلّ ذلك. رفع الفقراء الطرابلسيون العلم اللبناني في ساحة النور ليعلنوا أنّهم مركز. أعلنت لنا «أمّ الفقير» منذ ذلك اليوم أنّها اخترعت وطنيةً لبنانيةً جديدة لها ولباقي اللبنانيين، ترتكز على هويّة فخورة بنفسها لم تُمسَخ يوماً. ترتكز هذه الوطنية اللبنانية الجديدة على مركزيّة دور فقرائها الذين احتقرهم أثرياؤها، وعلى مركزيّة للفقراء في تحديد مصالحها من خلال تحالفهم الذي ما زال يبحث عن تمتين له مع الطبقات الوسطى. كلّ ذلك في حاضرةٍ يعيش أكثر من ثلثيْ المقيمين فيها تحت خطّ الفقر.

لقد اكتشف أهل المدينة على حين غرّة أنّ عظمة طرابلس تستعاد حين يجترحون ثورةً في الحاضر، وفي بيروت نفسها. لهذا نرى أنّه من بين الشعارات الثورية منذ 17 تشرين الأول، طغى التراث المديني الطرابلسي بأمومته مع الفقير: هم من يتكلّم باسم الثورة حين يذهبون لبعبدا لمناصرة المحتجّين هناك أمام القصر الرئاسي. هم أيضًا من تكون ساحتهم الكرنفال المستمرّ الانعقاد في لبنان عندما يحاول زعماء السلطة أن يقمعوا ويُرهبوا الثائرين في بيروت مستخدمين شبّيحة ضواحيها.

منذ 17 تشرين الأوّل، بات الفقراء الطرابلسيّون هم خطّ الدفاع المركزي عن الوطنيّة اللبنانيّة الجديدة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
استشهاد 5 مُسعفين في اعتداءات إسرائيلية مباشرة على فرق الإنقاذ 
المجر تتحدّى المحكمة الدولية: لن نعتقل نتنياهو
صامد في الفان رقم 
22-11-2024
تقرير
صامد في الفان رقم 
هذه الدول ستعتقل نتنياهو إذا دخل أراضيها
غارتان على أطراف الشياح- عين الرمانة 
جنود إسرائيليّون سمحوا لمستوطنين بالتسلّل إلى غزّة