للوباء في طرابلس معانيه. فهو على تأكيده معنى العدوى المنتقلة اجتماعياً، وتفكيكه صلات النسيج الطرابلسي وإعادة هيكلتها، وعلاقة هؤلاء بأماكن عبادتهم وساحاتهم وأسواقهم وأنفسهم وهوامشهم، يرسم خطاً موازياً لمعناه الآخر، الأكثر شراسةً وخوفاً، وهو العداء. هذا ما فهمتْه السلطة اللبنانية باكراً. فاستخدمت الوباء وتأثيراته كأداة قمع مُمنهَج لما راكمتْه ثورة تشرين، وكترميز لخطاب هذه السلطة وأدائها تجاه الثورة والثوّار.
اعتمدت السلطة خطاباً كيديّاً وموغلاً بالتوحُّش. وليست مشهدية إزالة الخيم من ساحة الثورة (النور) إلا تأكيداً صريحاً لهذا العداء الذي تغذّيه دكتاتورية وزير الداخلية، ابن نظام الوصاية السورية. والتاريخ يستذكر العلاقة العدائية بين سكان طرابلس وأركان الوصاية السورية ومخلفاتها، وهذا الوزير هو إحدى أبشع تركات هذا النظام البوليسي القاتل الذي ارتكب مجزرة باب التبانة (1987). وها هو يأمر بتفكيك صورة العلاقة المستحدثة بين طرابلس ولبنان التي رسّخها شعار «عروس الثورة» الذي أسقط كل الوجوه التي عزلت طرابلس تحت ظلالها.
لقد حكمَ العداء تاريخياً العلاقة بين الدولة اللبنانية وسكان طرابلس، بدءاً من نزعتهم الفطرية منذ الانتداب الفرنسي إلى كراهية النظام الملبنَن في صيغته المارونية أولاً وعدائيته العروبية ثانياً، وصولاً إلى بوليسيّته التي استهدفت طرابلس وشبابها ثالثاً.
وفي هذه اللحظة العالمية المربكة، يخرج هذا العداء من كُمُونه إلى العلن، وبخصوصية محلية يدركها الطرابلسي تماماً. وينبش معها محطاتٍ بارزة في معنى العداء المتبادل بين الدولة والمدينة، بدءاً من إعلان لبنان الكبير ومروراً بمشيخة خليل عكاوي و«منظمة الغضب» في باب التبانة (1968) ودولة أحمد القدور (1974) وحكم التوحيد (1983) ووصولاً الى مجموعات الأمس القريب، التابعة لجهاديّين وأصوليّين حاولوا خلط هذا العداء بالمظلومية السنّية.
يتمظهر عداء الدولة البوليسية اليوم في تدمير رمزية ساحة الثورة والتشدّد في إجراءات منع التجوّل، ويتقاطع مع نيّات ساسة المدينة ومليارديريّتها تجاه ناخبيهم، في هذا الظرف الطارئ والقاسي. وهي نيّات تضمر العنف النفسي والمعنوي لطبقة تشكّل غالبية سكان المدينة والأكثر تضرّراً من مفاعيل الوباء وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
بأسلوب الاستدراج إلى زمن ما قبل الثورة، يعيد ساسة طرابلس مَنْتَجَة سيناريو التسوّل أمام مؤسّساتهم، منفقين النذر القليل على مبدأ الولاء والتبعيّة وقهر الفقير واسترخاص ذمّته وكرامته. يستخدمون ضعفه لإعادة تقوية جذور طبقتهم وتفرّعاتها: الطبقة البرجوازية. فنحن أمام معركة أخرى، يجيزها زمن الوباء بين طبقتَيْ الأغنياء والفقراء، وهي معركة نرى أولى دلالاتها من خلال تحطيم خيم الثوار وشعاراتهم وفضائهم العام الذي أتاح لغضب طبقةٍ مسحوقة التعبير عن نفسه وتطلعاته وهواجسه وخوفه.
هذه الطبقة البرجوازية السعيدة بهذا المشهد، تسعد أكثر في إعادة الاعتبار لفكرة كرتونة الإعاشة في هذا الوقت العسير على غالبية الطرابلسيّين المياومين في أرزاقهم. وهذه الكرتونة التي يعيد إنتاجها المجتمع المدني، لا تفرّق في فوقيّتها وتعاليها في التعامل مع طبقة الفقراء من مبدأ «يا حرام» مغلِّفةً إياه بشعار خيريّ: «أنقِذوا فقراء المدينة»، أي بمعنى آخر جهّزوهم وقوداً للمعركة الانتخابية القادمة، ها نحن نعيدهم إلى المربّع الأوّل.
تصبح هذه الكرتونة أشبه بمصير أمام الطرابلسي الفقير، وتضعه مجبراً أمام حيتان المال (ميقاتي والصفدي وكبارة والجسر وفاضل وكرامي وغيرهم من صغار المقاولين والفاسدين) الذين يستعدّون تحت مظلّة الوباء إلى تقوية نزعتهم المفضّلة في احتقار الطرابلسيين.
للوباء في طرابلس تاريخه. وإن أجاز الإعلام اللبناني وصحافته الديناصورية لنفسهما تصويره في مشاهد رثاء أقرب إلى الغنائية، فإنّ ذلك لا ينفي أنّ الوباء متجذّر بدلالته اللغويّة ليكون أشبه بحياة مضمرة كان ولا يزال يعيشها سكان المدينة مع أحوالهم.
الوباء، بالمجاز الطرابلسي، هو شبح المدينة غير المرئيّ، منذ حكومات ما بعد الطائف. شبحٌ سيخرج عاجلاً أم آجلاً من تحت ركام الخِيَم.