غداة مقتلك، كانت ميريام تتحدّث عن قربك من الجميع. قالت إنك «تدخل في الناس بكل سهولة، مثل الماء».
الماء.
والسهولة.
في واحدة من رحلاتنا الأخيرة إلى شاطئ الدامور، قبل ثلاثة أسابيع من اختفائك المفاجئ، نزلنا إلى البحر معاً قبيل المغيب.
عبثاً أحاول أن أتذكر حديثنا في قلب الماء. نسيت. لم يعلق في رأسي سوى قولك، بصوتك الخفيض المعتاد، إنّ البحر رائقٌ مثل الزيت.
تحدّثنا كثيراً قبل ذلك يومها. عن وشم إسمَيْ عمّتك ووالدتك على ذراعك. سخرنا من بعض كالعادة. وأحسب أنك كنت تعلم أن سخريتك الدائمة من كل شيء، هذا الضحك الذي لم يكن ينضب، هي «فنٌّ للبقاء على قيد الحياة». وقد كنتَ تجيده ببراعة.
منذ رحيلك، يختنق الضحك في حنجرتي.
سألتني يومها عن المشروب الذي أحمله، قلت لك إنني اكتشفته هذا الصيف لكن مشكلته أنك تنهي بسرعة كأساً منه تلو الأخرى من دون أن تشعر بأثر الكحول، لأن طعمه يشبه «الفريسكو» الذي يقدمه «أنكل ديك». ضحكتَ ثم قلتَ شيئاً لم أفهمه حتى الآن: «شفتِ شو حلوة الإشيا السهلة؟». سألتك ماذا تقصد بالأشياء السهلة؟ لم تُجب.
السهولة. والماء.
في المرّة الأخيرة التي رأيتُك فيها، مساء السبت 7 تشرين الأول، قبل خمسة أيام من مقتلك الوحشي، كنتُ في الاستوديو عند مازن. ظهرتَ فجأةً في المكان بعد فترة، ولم أكن أعرف أنك هنا. سألتك «من وين بتطلع إنت؟»، أجبتني بأنك كنت نائماً في الداخل. من أين كنت تطلع فعلاً؟ كنت دائماً موجوداً، في كل مكان. في العمل والسهرات وعلى البحر وفي الطريق. مع الأصدقاء ووسطهم. لا أذكر أنني رأيتك يوماً إلا محاطاً بالناس، الكثير من الناس، تغمرهم مثل الماء، ومتوّجاً بتلك السهولة المدهشة.
قد يكون الموت هو عدم القدرة على تبادل ذكرى مشتركة بين شخصين – إيمان مرسال.
ثم اختفيتَ فجأة.
تعمّدتُ في اليوم التالي لمقتلك أن أشاهد الڤيديو الطويل الذي تبدو فيه ملقىً خلف الحافة حيث قذفك القصف أمتاراً، لأنني أردتُ خاتمة. أردتُ أن أراك بعينيّ حتى أصدّق أن ما حصل قد حصل فعلاً وأنك لم تعد هنا.
منذ ذلك الحين وأنا أفكّر في اللُّطف.
تحدّث أصدقاء كثر عن مواقفك معهم. عن نخوتك وسرعتك في مساعدة الجميع. عن الكرم والهمّة والشجاعة... حتى روت الزميلة كريستين عاصي أنك كنتَ السبب في إنقاذها من الموت حين حميتَها بجسدك من القصف الإسرائيلي الذي قتلك أنتَ بعدها بثوانٍ.
لم أتفاجأ. كأنني كنتُ أعرف هذا سلفاً.
منذ لحظة اختفائك الصاعق وأنا أفكّر في لطفك. في الرقّة والعذوبة اللّتين كانتا ترافقانك أينما حللتَ من دون أن تقلّلا بأية حال من سخريتك ونكتتك الحاضرة. في الخفّة التي كانت تطغى على أي مناسبة أنت حاضرٌ فيها.
في حنّيتك على الناس والحيوانات، في الوداعة التي لا أعلم إن كنّا سنجد مثيلاً لها في هذه المدينة.
حتى أنّ موتك التراجيدي كان ناجماً أيضاً عن لطفك الكبير. اللطف الحقيقي، لطف الطفولة لا «التطفيل». اللطف الذي لا يتوانى عن إنقاذ حياة صديقة حتى ولو كان الثمن حياة صاحبه.
لقد زيّف زمننا اللطفَ ومعانيه. جعله أيضاً، مثل أغلب الأشياء، أداةً بيد الأيديولوجيا السائدة، حين روّج له كوجه من أوجه «المساعدة الذاتية» (Self-help) التي سطّحت معظم أخلاقيات الفلسفة الرواقية، وجعلتها تبدو كفكرٍ رجعي لا يشغله في نهاية المطاف سوى زيادة إنتاجية الأفراد. «لطف الكوربورتس»، يسمّونه، لكنّه يتعدّى ذلك إلى اللطف الزائف المتكلّف بين الناس، والذي لا يتجاوز كونه لغةً– تماماً مثل «النموذج اللغوي» الخاصّ بالذكاء الاصطناعي– والذي يجعلنا أقرب إلى الروبوتات من البشر.
اللطف الحقيقي لا يمكنه أن يخدم علاقات السلطة القائمة. هو في جوهره معادٍ للقسوة وللسلطة، ولكل رغبة في إخضاع الآخرين والتحكّم بهم.
«اللطف هو الترياق الوحيد الفعّال لجميع اعتداءات الحياة»، كما كان يعتقد القائد والفيلسوف الرِواقي ماركوس أوريليوس.
يقول: «لنفترض أنّ شخصاً ما يلعن ينبوعاً عذباً وصافياً يقف بجواره، سيستمر الينبوع في دفق المياه العذبة. وحتى لو ألقى في مجراه طيناً أو روثاً، فسرعان ما يذري الربيع الأوساخ ويغسلها من دون أن يترك أثراً. فكيف لك أن تحصل على ما يعادل الينبوع الدائم التدفق؟ إذا حافظتَ في كل ساعة على طيبتك وبساطتك وأخلاقك». فاللطف لا يُقهر.
لطفك يا عصام، هو النقيض التام لقسوة إسرائيل وتَغَشُّمها. لطفك مقاومة للوحشيّة والظلم اللذَيْن نشهدهما هذه الأيام المفجعة.
«عصام عبدالله شهيد الصحافة».
عصام عبدالله «شهيدٌ على طريق فلسطين».
عصام مسجّىً في نعشٍ تسير خلفه مجموعة رجالٍ يهتفون بالموت لإسرائيل.
كم كنّا سنضحك يا عصام لو شاهدنا ذلك معاً؟ لم يكن أكثر السيناريوهات رداءةً ليتضمّن احتمالاً كهذا لنهاية حياتك، أنت الذي كانت نكتتك الأثيرة حين تلتقي بصديق في الشارع مباغتته بسؤال: «طريق القدس من وين؟».
ما هذه الحياة السينيكيّة العجيبة؟ ما هذه الحياة التي لا تنفكّ تكون محاكاةً ساخرة (سخرية رخيصة) لنفسها؟
كيف انتُزعتَ يا عصام من حياتك الصُّغرى، من حياتنا الصُّغرى، لتصبح شهيداً نرى صورَهُ على جدران المدينة وفي تظاهرات حول العالم؟ من سمح بأن يقابَل كل هذا اللطف بهذه القسوة الفظيعة؟ ولا أظنّ أن هناك أقسى من تحويل صديقٍ من لحم ودم وحكايات وضحك إلى «رمز». من لفّق معنىً لم تكن تحتاجه لحياتك التي أزعم أن معناها كان اللطف بحد ذاته؟
وعلى سيرة المعنى، لقد صالحني موتك مع فيروز. تصالحتُ مع اللطف الذي لا يُحتمل في صوتها. كنت قد هربتُ من هذا الصوت، من الهشاشة والانكسار فيه ومن شبح المعنى الذي يطارده. صوت فيروز وأغانيها هي الثقلُ بعينه الذي تطلّب التخفّف منه- بالنسبة لي- قطيعةً تامة معها. كرهتُها لفترة طويلة. فاتني أن إغلاق الباب أمام الثقل، لا يعني بالضرورة أنه لن يدخل من النافذة. عدتُ إلى صوتها بعد رحيلك، أبحث فيه عن تلك الرقّة التي تطبطب على الكائنات وتتماهى مع انكسارهم. أبحث عن ذلك اللّين الذي يهدهد التعب والهشاشة التي تعصر القلب فتغسله لبعض الوقت من آثار القسوة. أبحث في ذلك الصوت عن جرح الطفولة الدائمة، لأنك يا عصام طفولةً دائمة.
زوال إسرائيل؟ لستُ أدري.
ولكنني متأكدة من أن رجع صدى لطفِكَ سيظل يتردد داخل كل من عرفك وفي أنحاء المدينة التي ازدادت قسوةً وقبحاً مع غيابك عنها.