تعليق انتحار
سارة مراد

علي الهق: المواطن الأخير

7 تموز 2020

«علي ما انتحر، قتلوه»

 

صباح الجمعة الفائت، أطلق علي الهق رصاصة على نفسه، منتحرًا بها على الرصيف في شارع الحمراء.

اعتبر البعض علي ضحية هذا النظام ورفضوا تسمية موته انتحارًا، مضيفينه إلى لائحة جرائم هذا النظام القاتل الذي يريد تحميل الشعب ثمن الانهيار. في محاولة لتفسير موته، كتب البعض علي ما انتحر، قتلوه، وهو شعار يحاول تسييس الانتحار عبر نزع صفته كفعل إراديّ وتحويل الفاعل إلى ضحية. البعض الآخر وجد في انتحار علي أسمى أنواع الرفض والتمرّد وأكثرها صدقًا. فوجدوا أنّ علي قتل النظام. ومنهم من حوّل الموت إلى استعارة ليقول إنّنا جميعًا أموات.

لكنّ الحقيقة البسيطة تبقى أنّ علي قتل نفسه، ولا جدوى من نفي إرادته بالموت. أما نحن، فنبحث عن المعنى، معنى فرض علينا انتحارُ علي البحثَ عنه أو صناعته. والمعنى اليوم هو معنى البقاء، معنى يصنعه الأحياء وليس الأموات.

انتحر علي بعيدًا عن أنظار المارّة وفي وضح النهار، وعلى بعد خطواتٍ من مسرحَيْن. ترك لنا، نحن جمهور الانتحار/ الانهيار، سجلّه العدليّ وعَلم لبنان وجملةً أعادنا بها إلى زمن انهيارٍ آخر. أنا مش كافر، كتبها علي، رابطاً من خلالها رسالته الأخيرة بكلمات أغنية زياد الرحباني من ثمانينات الحرب الأهلية. هل تعمّد علي هذا الربط؟ هل أراد منّا استذكار الأغنية وكلماتها لنكملها، بس الجوع كافر… والذلّ كافر، ونفهم بالتالي دوافع انتحاره؟ هل سمعها عند صدورها في عام 1985؟ وكم انهياراً عاش؟ هل اعتبر نفسه من هذا الجيل، جيل الحرب والقضية والهزيمة؟ أم أنّه أراد استباق اتّهامه بالكفر من قِبل جوقة المؤمنين؟… طرح علينا موت علي أسئلة كثيرة لن نعرف أجوبتها.

إخراج الانتحار

قد لا نعرف ولكنّنا ندرك أنّ علي أراد بموته توجيه رسالة، تاركًا لنا مهمّة البحث عن معنى هذا الموت العلنيّ، عن معنىً يكمن في إخراجه لهذا الموت. فلم ينتحر علي في غرفةٍ ولا في شقّةٍ ولا في مكانٍ معزول. أراد الموت بيننا، في شارع المسارح والمصارف. أراده موتًا علنيًا، رمزيًا، عن سابق تصميم.

ترك لنا علي أوراقاً تعريفيّةً اختارها بنفسه: علم لبنان وسجلّ عدليّ نظيف. لست بكافر ولا حكم عليّ، يقول لنا. في خياراته الرمزية، خاطبنا علي من موقع المواطن اللبناني الصالح والشريف العابر للطوائف ووريث أزمنة الانهيار. أراد إشهار براءته في زمن محاسبة الشعب على جرائم حكّامه، ربّما أراد التعبير عن حبٍّ ما لوطنٍ خذله. فهو بريء، وإن قتل نفسه. كأنّه يقول إنّ الانتحار ليس جريمةً ولا كفراً، لا بالدين ولا بالوطن. ربّما أراده علي انتحارًا ملتزمًا، بقضيةٍ تتخطّى الفرد لتضعه ضمن سياق اجتماعي وسياسي ومعيشيّ أوسع. أراده انتحارًا يخاطب وطناً، لا نظاماً.

للوطن

يصعب الحديث عن الوطن في زمن صعود الفاشيات القومية، عرقيةً كانت أو دينية. ما معنى الانتماء الوطني في لبنان اليوم؟ وهل هو مبنيّ حكمًا على فوقية الهوية اللبنانية ونبذ الآخر، اللاجئ السوري (وريث الفلسطيني) بالدرجة الأولى؟ في السنوات الأخيرة، حمّل أركان هذا النظام، وأوّلهم جبران باسيل، غيرَ اللبنانيين مسؤولية فشل الدولة في تأمين الحدّ الأدنى للعيش. في المقابل، تبلور خطاب مناهض لهذه الوطنية الشوفينية ليندّد بالعنصرية ضد اللاجئين والعمّال الأجانب عمومًا والسوريّين منهم بشكلٍ خاص.

في هذا السياق، أعادت ثورة تشرين طرح مسألة الهوية الوطنية. فشكّلت عودة العلم اللبناني إلى ساحات التظاهر والتحرّكات الاحتجاجية علامةً فارقة، إذ أصبح العلم رمزاً لاستقلال فئةٍ من الشعب عن النظام ومواجهتها له. في وجه الولاء الحزبي/ الطائفي إذاً، صعد خطاب معاكس يشهر في رفضه للنظام ولاءً للوطن. اختار علي أن يرثي نفسه بسجلٍّ عدلي وعلم، وهنا يكمن المعنى السياسي لموته الذي صنعه هو، هو المواطن البريء والمؤمن بهذا الوطن. وهذا هو البعد الذي يغيّبه الخطاب السياسي الذي يلخّص فعل الانتحار بمسؤولية النظام فقط.

في عشيّة العيد المئويّ لإعلان دولة لبنان الكبير، وفي لحظة انهيار هيكله الاقتصادي والسياسي ومعه العقد الاجتماعي، انتحر آخر مواطن في شارع الحمراء، تاركًا لنا أسئلةً لا بدّ لنا من الإجابة عليها، نحن الباقين على قيد الانهيار. فهل سنرضى- باسم الوطن، وطنهم الزائف، وباسم عبادة مسلّماته- بدفع ثمن إعادة إعمار الهيكل، ومعه إعادة ترميم النظام؟ وقت الكفر قد حان.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فيدان والشرع عن قسد: لا مكان للسلاح خارج الدولة
تخطيط قيمة حياة فتاة عشرينيّة مقيمة في بدارو
وزير الدفاع الإسرائيلي يزور جنود الاحتلال في جنوب لبنان
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة