أفكّر في هذه الـ«ضروري».
ربّما فهمنا أنّ هذه هي آخرتنا. ربّما تقبّلنا. لكنّي أفكّر فقط في سؤال الضرورة: هل كان من الضروري أن نُذَلّ؟ ولماذا؟
هل تتلازم كل الانهيارات مع الذلّ؟ أم يحدث لبلدٍ ما أن ينهار بكرامة؟ ضدّ غَزوٍ أو جرادٍ أو قَدَر أو…
ثم أُدقّق السؤال: هل كان ذلّنا «نتيجةً» للانهيار؟ عارضاً من أعراضه فحسب؟
مثلاً أن تفقد العملة قيمتها، وتتبخّر مدّخراتك، ذلّ من إذلالات الانهيار. لكن أن تُنَظَّم عملية السحب بهذا الشكل وأن يَستحدِث رياض سلامة منصّة صيرفة ويوهم المواطن أنّه «يربح» 50$ إذا انتظر ساعات في الطابور وأن ينتظر المواطن ساعات في الطابور وأن تسنده هذه الـ50$ طيلة الشهر… فهذا ليس بالذلّ الناتج عن الانهيار. هو أقرب إلى إذلال مُصمَّم عن سابق تصوّر.
هنا قصّة من أمام مقرّ الأمن العام، قبل الفجر. يُنظّم الطابور نفسه لليوم التالي، يتساعد الحاضرون عبر تسجيل لائحة بأدوارهم. بعد سهرة الانتظار الرَّتيب، يحضر العسكري المسؤول:
- هي ورقة الأسامي؟
- نعم
- مسجّلينهم بالدور حسب الوصول؟
- نعم
- هل أنتنّ موافقات على هذا الدور؟
- موافقات
- وكل واحدة تعرف رقمها وحافظة مين قبلها؟
- نعم
- عظيم، إذاً.
يمزّق العسكري الشاب الورقة ويرميها أرضاً كأنّه يتشفّى بنا، وبكلّ سهولة. مزّقها كأنه يرقص الباليه مثلاً لكثرة ما كانت حركته انسيابية، خاصة وأنها أتت بعد حوار يحمل معاني التطمين، وكأنه يسهّل لنا أمورنا ويتعاون معنا لإنجاز معاملاتنا في هذا اليوم الشاق. يمزّقها... هكذا بتعالي من يريد تلقين الآخر درساً لن ينساه. يمزّقها بلذّة كبيرة. تطلع شهقة مستنكِرة من إحدى النساء: «لااه! لماذا فعلت ذلك؟!».
أبحث عن المعنى خلف هذا الذلّ. ليس ذلّا «ناتجاً» عن الانهيار، بل نوعٌ آخر. ليس عارضاً، بل هو الجوهر. ليس أثراً جانبياً للأزمة، بل من سِماتها، من أركانها المؤسّسة. هو ذل قائم بذاته، وليس مُنتَجاً byproduct لمسألة أخرى.
Credits: Dylan Collins, most images shot for AFP.
من الغرابة أيضاً هذا التكرار الكثيف واللاواعي لتمنّيات الموت في يوميّاتنا. أبعد من انفعال الـ«ريتني موت» البسيط. في مُراجعة لغتنا المحكية في الأعوام الأخيرة، تزايدت هذه العبارات بشكلٍ رهيب: عايشين من قلّة الموت [وقد اكتسبت هذه العبارة رنيناً فادحاً بعد انفجار 4 آب، أو مقتلة الطيونة] / الموت أريَح [يقولها مريضٌ لم يستطع تأمين دواءه] / ريتني موت وارتاح. ثم تُخاطب هذه العبارات مجهولاً نعرفه: يمَوتونا ويخلصوا مش كان أريَح؟/ بعد ناقص يقتلونا/ تاركينّا نموت… وقد تزايدت حالات الانتحار، حتّى باتت تتلاصق أكثر فأكثر. هؤلاء لم ينتحروا، بل قتلتهم السلطة. لكنّهم يجسّدون انتقال تمنّي الموت جرّاء القهر من القول إلى الفعل.
سؤال الذلّ، وضرورة الذلّ، يبدو عبثياً هنا. لماذا الإذلال في سياقٍ مُميت لهذه الدرجة؟ الذلّ لا شكّ ثانوي أمام الموت. أو القتل. فالقتل هو العتبة الأخيرة من ممارسة الفظيع. الإذلال أدنى مرتبةً، بل هو فظيعٌ خفيّ. وأحياناً نرضى بالموت إلّا أنّنا نطلب ولو يوماً واحداً خالياً من الذلّ على هذه الأرض: ما بيطلعلي عيش بس نهار واحد مرتاح؟.
إذاً يبدو سؤال الذلّ عبثياً باللحظة الأولى: لماذا يجري تعذيب وإذلال من يُرجَّح أن يُعدَموا بعد حين؟
بلحظةٍ ثانية، نُلاحظ أن جواب السؤال حاضرٌ فيه: يجب الحطّ من شأن المعذَّبين قبل قتلهم من أجل تخفيف الشعور بالذنب عند القاتل. من مفارقات القدر أن تنطبق على لبنان، اليوم، هذه المقولة التي تعود لبريمو ليفي والتي يستعيدها الكاتب ياسين الحاج صالح في مقالات «الفظيع وتمثيله»، لتفسير جرائم التعذيب في سوريا تحت حكم الأسد. نهج الإذلال إذاً يتعدّى الانهيار. والتعامل معه كنهجٍ بالفعل، في لبنان، يجعلنا نُعيد النظر في ما يحصل. هل هو «مجرّد انهيار»، أم حرب تُشَنّ ضدّنا؟
فمِن الأهوَن تناسي من قُتلَ بعد التحقير. أن ننسى فقيراً قُتل بانهيار مدرسةٍ رسمية على رأسه، أسهل من نسيان موتِ غنيّ موتة ربّه. أن نغضّ الطرف عن مقتل المهمّشين، أهوَن على الدوام. فماذا فعل الانهيار غير أنّه همّشنا؟ همّشنا بدرجاتٍ متفاوتة. بكل الأحوال، توسَّعَت نسبة المهمّشين والمُفقَرين، ولو مُقابل تعويم فئات جديدة أو حصر الثروات بيد القلّة نفسها.
بعد تمييزنا بين الذلّ كنتيجة للانهيار، والإذلال المتعمَّد كركنٍ من الانهيار، صار بإمكاننا تمييز الغاية من هذا الذلّ: الإذلال اليومي لتسهيل القتل. الفكرة بسيطة: كلّما حقّرت الروح سهُلَ زهقها. لتبسيطها بعد، تذكّر: عليكَ أن تتعاطى مع البقرة كهامبرغر، عوضَ التعاطي معها كحيوانٍ أليف، بغية تقبّل ذبحها. ومن الأسهل أن تذبح هذه البقرة، عوضَ ذبح جارك الإنسان. والأسهل أيضاً ذبح الخنزير عوضَ ذبح البقرة، والأسهل ذبح جرذ المجاري عوضَ ذبح الخنزير… غايةُ الإذلال إذاً أن يُصبح الإنسان جُرذاً. لا أقصد بذلك أنَّ قتل الجرذ مقبول هذه شريعة المزرعة والتدجين. لكنها أيضاً أبرز القواعد التي سادت عشية الحرب الأهلية في لبنان: ألم تسمعوا بالدرزي الذي «اله دنَب»؟ أو المسلم الذي هو «مواطن درجة تانية»؟ أو «البراغيت» التي دخلت لبنان؟ هكذا، وجدت كل جماعة سبيلها في تحقير «الآخر»، فسهُلَت الجريمة على الجميع. لكن يبقى أنّ ذلك كان «إذلالاً طائفياً»، بخلاف «الإذلال المُعمَّم» اليوم. إذلال المجتمع كمجتمع، وإعادة توزيعه على ما هو أبعد من الطائفة أو الجماعة: تقسيمه بحسب درجة الذلّ التي يتشاركها الأفراد.
والإذلال علاقة. بقدر ما تُحِطّ من شأن المذلول، فإنّها تُعلي من شأن مُمارس الذل. مقابل إذلال الضحية تمهيداً لقتلها، لدينا تهييء القاتل. والقاتل نوعان:
- رأس السلطة بصيغته الرسمية، مُهندسو الانهيار والمستفيدون منه.
- الناس. أو، عنف السلطة إذ تفشّى بين الناس. أو، فئة من الناس لها بعض «الصلات». لها أيضاً مسدّس على خصرها.
هل لاحظتم مثلاً السرعة التي سحب بها ذلك الرجل مسدّسه وقتل الرجل الذي تخطّاه على الدراجة؟ سرعة رهيبة. صفر تردّد. أو عنصر أمن الدولة في محل السي-سويت. غريبة هذه التلقائية في سحب المسدّس وإطلاق النار. مُخيفة.
باللحظة الأولى، ممارسة الإذلال توسّع الهوّة بين رأس السلطة وقاعدة الهرم. يبتعدون خطوة عن المُساءَلة، نبتعد خطوة عن قدرتنا على المُساءلة. باللحظة الثانية، مُمارسة الإذلال «تُغربل» قاعدة الهرم. شيءٌ على شاكلة the hunger games : أنا أُمارس ذُلّاً إذاً أنا سأنجو من الانهيار.
هذه العلاقة يُسمّيها الكاتب ياسين الحاج صالح «تشريط» القاتل، أي إعداده حتّى يصير قادراً على قتل الضحية. فالقتل مشروط. ومن شروطه: أن تكون الضحية رخيصة، لا تستدعي ندماً ولا تولّد شعوراً بالذنب بعد التخلّص منها.
ونحنُ، اليوم، رخيصون.
الإذلال واقع. لكنّه أيضاً مشهد. المستوى الأوّل إذاً هو أن نعيش واقع الذلّ، والمستوى الثاني أن نراه أمامنا لحظة وقوعه، والمستوى الثالث هو صورة الذلّ التي تُتداول في ما بعد. على وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، على نشرات الأخبار، حتّى على الدعايات. لفرط ما تقصفنا هذه الصوَر، طبّعنا مع الإذلال. صار شكل الطابور «عادي»، وشكل التشرّد «عادي»، وشكل الجثّة «عادي». ستُذلّ فيما تُشاهد غيرك الذي يُذَلّ. إذلالٌ بالإنابة، يمكن القول.
كما العجز المُكتسب، نكتسب أيضاً تقبّلاً للإذلال.
لهذا التقبّل مفعول «تأديبي». يُؤدّبك النظام عبر جعلك تُشاهد بؤسك. هذا مصيرك، يقول. واصلك الدور. مُشاهدة الفيديوهات اليومية لسهولة سحب المسدّس والقتل، سيذكّرك أنّك في أي لحظة عرضة لمثل هذا الموقف. سيزيد التوجّس. لن تمشي بعد اليوم من دون أن تفكّر بالاحتمالات التي تُخفيها الطرقات أمامك، الساحات من خلفك، الحشد من حولك. كل شخصٍ منهم قاتل مُحتمل. كلّ شخصٍ منهم قتيل مُحتمل. إنّه العنف إذ يعزّز البارانويا والقلق المُجتمعي.
وفيما يُخاطب الذلّ الفعلي فرداً بعينه، يستهدف الذلّ المُصوَّر جماعة: من له عينان، فليرَ! وهذا وجهٌ ثانٍ لمسألة تعميم الإذلال المذكورة سابقاً. لكنّ الصورة «تُفيد». أقلّه تشهد. أُفكّر لو مضى هذا الانهيار من دون أي صورةٍ عنه، ورحنا نخبّر من لم يعشه عمّا أصابنا، فهل كان ليُصدّق؟ وإن صدّق، هل كان باستطاعته تخيُّل كل آليات الإذلال الحاضرة بيوميّاتنا؟ هل كان سيتمكّن من تخيُّل درجة الفظاعة نفسها؟ فنقبل عندها إشهار الصورة ولو فيها ذلّنا، وهو ما يرفضه المرء عادةً، يُخفي صوَر العار والذلّ. نقبل إشهارها ولو فيها إهانة لكرامتنا، باعتبارها تشهد، لكن أيضاً باعتبارها تُدين.
من الممكن الكشف عن جوانب أخرى للذلّ/ الإذلال، وقد تكون إلى ما لا نهاية في سياقنا اللبناني. لكن عند هذا الحدّ، يصعب التصديق أنّ الذلّ مجرّد أثر جانبي للانهيار. أعود وأتساءل… هل كان من الضروري إذلالنا؟
ايه. كان ضروري هيك تكون آخرتنا.