كل شيء قريب، إن أسوأ الظروف المادية ممتازة. الأحراج بيضاء أو سوداء، لن ننام أبداً.
أندري بريتون
أي تفكير، أي رأي، أي تحليل للوضع اللبناني، من أي نوع كان، أصبح أكثر من عقيم، مثقلاً ومحبطاً بكل تلك الأحداث. وكذلك أيضاً أي فعل. فهو يُغرقنا أكثر فأكثر في هذا البئر الذي لا قعر له والذي سعى وما زال يسعى إلى حفره خصومنا الكثر والمتعددون. هم لا يسخرون بالسرّ من رغباتنا، بل يقهقهون مكشوفي الوجوه، وبكل بوقاحة. نحن لا نخيفهم. في عيونهم وأصواتهم وجبهاتهم وأكتافهم، لا فزع ولا ارتجاف، بل انزعاج على الأكثر. باختصار، يستفحلون في تجاهلنا. ستائرهم الأمنية المختلفة ليست إلّا هذا التقليد المعتاد الذي يرغموننا على تأديته، كل واحد محصوراً بدوره. يجب ألّا نبتعد عن هذه الأودار بتاتاً. فهذه الجدران هي ذاتها التي لا ننفك نصطدم بها، جدران لا يحتمون خلفها فعليًا، هم المنغمسين في غرورهم الذي لا مثيل له وفي ازدرائهم. ورغم أنهم خصوم ذوو حقارة مدهشة، عاجزون عن الحفاظ على شبه كياسة وريادة (بما أنهم يدّعون القيادة)، لم يعرفوا أو لم يستطيعوا الاستمرار بجرّنا في السباق المتهوّر هذا. وهنا يجب التذكير بأن قسماً كبيراً من المواطنين كسب الأرباح من هذا السباق على فترة طويلة، أرباح غير موزعة بالتساوي طبعاً، لكنها تبقى أرباحاً، أرباحاً بالدولار وبالليرة اللبنانية على حدّ سواء. خصوم منشغلون بخلافاتهم الداخلية الأبدية ومصالحهم المتعددة (على الرغم من هامش تصرّف يزداد ضيقاً ويكاد يكون شبه منعدم - الى الجحيم!) إلى حدّ أنهم لا يرون أي شيء آخر.
شرطتهم وعسكرهم وأتباعهم ومخبروهم وبنادقهم ورصاصهم الحيّ والمطاطي وهراواتهم وقنابلهم المسيّلة للدموع وخراطيمهم، كلها أفخاخ نصبوها لنا. هم ينتظروننا تماماً حيث نهاجمهم. ما إن بدأت انتفاضتنا، رغم أنها كانت غير متوقعة، بالنسبة إلينا وإليهم، سرعان ما تمّ تحديد أرض المواجهة. واليوم، بوجود هذه الجرثومة المعدية التي حلت علينا دون سابق إنذار، باتت الحدود محصورة أكثر فأكثر. لسنا إلّا مشاكسين بنظرهم، ناكري جميل يجب ترويضهم، يجب إرهاقهم وقد يملّون في النهاية.
ربّما قد ينضبط أكثر من واحد منا، وحتى قد ينضم إلى طرفهم (أو يعود إليه مَن تجرّأ وأقلع عنه)، وقد ينتقل إلى الجانب الآخر. جعلوا منها مسألة عائلية، مسائل عائلات، أو بالأحرى عشائر. والعشيرة، إما أن ننتمي إليها وإما أن نُستبعد عنها. ونضحي مشاكسين أو خرافاً سوداء. لا يمكننا تجاهل ذلك. يملك العدو أكثر من نقطة ارتكاز في أنفسنا، في كل واحد منا. وشئنا أم أبينا، هذا يحتم تكرار هزائمنا. كل هجوم نشنّه وكل معركة نخوضها يكرّران هذا الواقع الكارثي.
أي نضال نخوض اليوم بوجه كل «هذا» الذي وُلدنا منه بطريقة أو بأخرى؟ مَن منا ليس لديه أخت أو أخ أو ابن عم أو ابنة خالة أو عمة أو عم أو أب أو أم أو ولد أو حتى صديق طفولة أو جار، وحتى جزء من نفسه، لا ينتمي إليه؟ على أي أرض يجب أن نجرّ هذه الهيدرا؟ كيف نرى أخيراً هذا الخوف في عيونهم؟ حتى يضحى لا يفارقهم نهاراً وليلاً، بالأخص في الليل. كيف نصبح، مثلهم، مادة سائلة، بعيدة المنال، ونتسلل إلى شرايينهم وأعصابهم وعضلاتهم وحساباتهم، ونخلّ بشكل مستديم ونهائي باتزانهم المتزعزع بالطبع لكن منذ الأزل، منذ طموحاتهم الأولى إلى القيادة والحكم، هذا العرض البهلواني بكل معنى الكلمة؟
أي نضالات نخوضها ولا تكون مكرّرة؟ الأزمة، أزمتنا، الاقتصادية، الاجتماعية، «البنيوية»، ليست كما اعتقدناها بعزم، المفتاح المشهور، افتح يا سمسم. على العكس، إنها من المكوّنات الأساسية في ترسانة النظام الحاكم، حتى «عندنا»، هذه الفوضى العارمة التي لا اسم لها، لكنها فوضى واضحة جداً في إرادتها النهمة للاستفادة من ذلك أيضاً، لأنها تتسبب بها قبل الأوان لاحتوائها بشكل أفضل، واقتراح في النهاية ضمادة بائسة. نعم، أي نضالات نخوض لا تكون طريقاً مسدوداً آخر، أي نضالات تستطيع أن تفاجئهم، أن تربكهم ارتباكاً عميقاً؟
لا أجرؤ على السعي إلى جواب هنا، أجوبة بصيغة الجمع، جواب فردي وجماعي أو أجوبة فردية وجماعية، «و». لربما يجب أن نتخيّل شارعاً غير ثابت أبداً، غير قائم، غير طقوسي، بل متحرك باستمرار، غير متوقع، مبتكر؛ لربما يجب أن نتخيّل آلاف الأفعال الصغيرة، آلاف الرسوم الجدارية، آلاف الأوراق الطائرة، آلاف اللقاءات المتنوعة التي يجب أن نُحدثها، الأفضل أن تكون صغيرة، وأن نشبك بينها، أن ننشر شائعاتنا، سواء كان لها أساس أم لا، وأن ننتشر دون أن نكون في أي مكان محدّد. إن كان في بيروت او طرابلس أو جل الديب أو كفر رمّان أو نبطية أو صيدا أو بعلبك أو صور أو عاليه أو حلبا، في كل مكان في هذه البقعة المتوسطية، أن نكون فيها ولا نكون. بعيدين عن المنال.
أريد أن أرى الخوف في عيونهم، كتب لي صديق ورفيق مؤخراً. نريد أن نرى الخوف في عيون خصومنا، بمن فيهم الذين يدّعون اليوم أنهم يريدون إنقاذنا من الغرق. نريد أن نرى بؤبؤ عيونهم هالعاً.