آخر رجال الطائف
توفّي حسين الحسيني في أوائل السنة الجديدة، وهو الذي عُرِف كـ«عرّاب اتّفاق الطائف» وصاحب محاضره السريّة. مع رحيله، خسر نادي «رجال الطائف» أحد أبرز أعضائه، ربّما آخرهم. بعضُهم رحل جرّاء العمر والمرض، وبعضهم الآخر قتلًا، لكنّهم جميعًا كانوا قد أبعدوا من الحياة السياسية اللبنانية لصالح رؤساء الميليشيات وتجّار العنف، أي من وُضِع الاتفاق أصلًا لضبطهم.
قد يكون «رجال الطائف» آخر جيل سياسي لبناني يتمسّك بفكرة «العيش المشترك» كناظم ممكن للحياة السياسية اللبنانية. فـ«العيش المشترك» لم يكن بالضرورة حقيقة اجتماعية في نظرهم، بل أقرب إلى مبدأ أخلاقي أو «لياقة» سياسية، تقف كالحاجز الأخير، مهما كان هشًّا، أمام موجات عنف مجتمعهم.
وكأيّ لياقة، كان «للعيش المشترك» أدبياته وممارساته وأخلاقه، كما هفواته وسكوته. فمع بداية الاقتتال الأهلي، أنتج «رجال الطائف» سلسلة من أوراق التسوية ومشاريع اتفاقيات وقف إطلاق النار، قاموا بوساطات بين الأطراف المتصارعة، عملوا على وقف إطلاق نار من هنا أو على الإفراج عن مخطوف من هناك، بقوا متمسكين بعلاقاتهم العابرة للطوائف، علاقات سهّلها التناغم الطبقي بينهم ولطّفتها اللياقات الاجتماعية الموروثة.
ومع إبرام اتفاقية الطائف، اعتقد رجاله أنّ لياقتهم انتصرت، أنّه بات للكلمة قدرة على وقف العنف، صدّقوا مقولة أنّ الأطراف المقاتلة أُنهِكت، فعادت إلى رشدها، آمنوا بأنّ قادة الميليشيات سيخرجون بهدوء من الحياة السياسية في لحظة سلام وإعمار وازدهار.
حسين الحسيني توفّي، ونبيه برّي ما زال رئيسًا لمجلس النواب، يحرص على تطبيق اتفاق وُضِع بالأصل لِلَجمه، هو ورفاقه في نادي أمراء الحرب.
تاريخ الطائف الرسمي وتاريخه الفعلي
يشكّل «رجال الطائف» ومسوّداتهم التاريخ الرسمي لاتفاق الطائف. فالاتّفاق لم يكن مجرّد تعديلات أدخِلت على دستور وأنهت الحرب الأهلية اللبنانية. وهنا تبدو الانتقادات الدستورية الموجّهة إلى اتفاق الطائف أقرب إلى سفسطة قانونية، تتجاهل مسألة العنف الذي حاول الاتفاق ضبطه في حدود لحظته التاريخية. كان خلاصة تراث من مسوّدات وقف إطلاق النار، بدأت مع الحرب، مع هيئة الحوار الوطني (1975) والوثيقة الدستورية (1976)، واستمرت طيلة سنوات الاقتتال الأهلي: مؤتمر جنيف (1983)، مؤتمر الحوار اللبناني (1984)، الاتفاق الثلاثي (1985) وغيرها من النصوص التي حاولت وضع حدّ للعنف. هذا التراث الذي يعود إلى فكرة «الميثاق» المؤسّس للكيان اللبناني، يشكّل تاريخ الاتفاقية التي باتت معروفة كـ«الاتفاق الذي أنهى الحرب»، ودلالة على أن فكرة «العيش المشترك» ستنجح في ضبط السياسة وستنتصر على العنف في آخر المطاف، حتى إذا كان آخر المطاف يقاس بمئات الألاف من القتلى والجرحى.
لكنّ التاريخ الرسمي، أيّ تاريخ رسمي، يخبّئ تاريخاً فعلياً، أقلّ طهارة. فهذا العنف الذي اعتبر «اتفاق الطائف»، في روايته الرسمية، أنّه نجح في رميه إلى تاريخ بعيد، تاريخ ما قبل الاتفاق، هو التاريخ الفعلي للاتفاق ولنظام ما بعد الحرب. ففي وجه حسين الحسيني ومحاضر الطائف، هناك نبيه برّي وحربه في بيروت الغربية مع الحزب الاشتراكي، وفي الضاحية الجنوبية مع حزب الله، وفي المخيمات مع الفلسطينيين، واغتياله للشيوعيين وسياراته المفخّخة. في تأريخ وفهم النظام اللبناني، كُتِب الكثير عن الطبقة السياسية ومصالحها الاقتصادية ودوافعها الطائفية وارتباطاتها الإقليمية. لكن ربّما كان سرّ عملها يكمن في تقنية «السيارة المفخخّة»، في برودة تحويلها للعنف إلى رسالة «مجهولة المصدر»، في تقنيات اختيارها لضحاياها وعددهم، في اعتباراتها النفعية. قد تشكّل دراسة «السيارة المفخّخة» كتقنية حكم مدخلاً أكثر واقعية لفهم حياتنا السياسية من ألاف التحليلات التاريخية والسوسيولوجية. هناك نبيه برّي وغيره من رجال نادي الحرب، ومحاضر الطائف هي، أولًا، الآلاف الذين قتلوا على أيديهم، في انتظار تأمين شروط تسوية أو للتفاوض على بند من بنودها.
حسين الحسيني توفّي، ونبيه برّي ما زال رئيسًا لمجلس النواب، العرّاب «الفعلي» للاتفاق.
طيف الطائف وشبح الحرب
من يتذكر آخر الثمانينات يدرك تمامًا لماذا أخذ هذا الاتّفاق الشكل الذي أخذه، مع كل عيوبه وأخطائه. من يعُد إلى مسلسل السيارات المفخّخة المتنقل، والاشتباكات الدموية بين «الحلفاء»، والخطف والاغتيالات، والانهيار المالي والمآسي الاجتماعية، يدركْ أنّ الطائف، مع تسوياته وعيوبه وتناقضاته، كان ثمن إنهاء هذا الجنون، كان فدية دفعها المجتمع لأمراء الحرب وحلفائهم الإقليميين. قد لا يفهم مَن دخل السياسة مع ثورة تشرين، كيف قبل مَن سبقه بدفع هذه الفدية وبالتهليل لمشروع السلام والإعمار، رغم إدراكه بعيوبه البنيوية. قبلوا لأنّ مشكلتهم مع «الطبقة السياسية» لم تكن فسادها بل إجرامها، الفساد كان ثمن إنهاء الإجرام، ولو مرحليًا. قد لا يفهم من لم يعش مرحلة السيارات المفخّخة كيف يقرّر ناس رهن مستقبلهم مقابل بضع سنوات من السلام، مهما كان هشًّا. قد لا يفهم، ولكنه بدأ يفهم، وهو يرى الآثار التأديبية للأزمة من حوله.
وهذه الفدية شكّلت جانبًا أساسيًا من اتّفاق الطائف، الجانب الذي حرّك رجاله بإسم «المدنيين» المنهكين. فالاتفاق كان محاولة لجمع عدد من التسويات بنص واحد، تسويات بين المسلمين والمسيحيين، وبين القوى الإقليمية، وداخل كل معكسر. وبين كل هذه التسويات، كان هناك تسوية أخرى، ضمنية، بين مجتمع-رهينة وأمراء حرب، دفع الطرف الأول فدية مكوّنة من فساد وعفو وطيّ لصفحة الماضي مقابل خروج الطرف الثاني من المعادلة السياسية تدريجيًا، مدفوعًا باللحظة الدوليّة الراهنة آنذاك. كانت هذه التسوية ضمنية لكنّها محمولة من «فعالية عاطفية» نابعة من الذكرى الحيّة للحرب المحفورة في الجهاز العصبي لمجتمع ما زال يخرج من تحت القصف.
شكّلت هذه الفعالية العاطفية رافعةً لأبرز حركات الاعتراض خلال عقد التسعينات، والتي انطلقت، بمعظمها، من مبدأ «عدم تطبيق» الطائف، أي من فكرة أنّ القيّمين على الوضع أخلّوا بالاتفاقية. تسلّح معارضو الوجود السوري، مثلًا، بعدم تطبيق الفقرة عن إعادة تمركز القوات السورية للمطالبة بوضع حد للوصاية السورية. كما طالب البعض الآخر بتطبيق البنود المرتبطة بإلغاء الطائفية السياسية، تأكيدًا على مرحلية الطائفية السياسية كما أقرّها الدستور الجديد.
فالطائف، المُطبَّق أو اللامُطبَّق، نجح لفترة بسيطة بأنّ يتحوّل إلى الطيف الذي يحيط بالسياسة اللبنانية، ناظم شرعيّة دائمًا مؤجلة أو شرطية، دائمًا قابلة للاستعمال في وجه أي سلطة. «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، عبارة اعتبرها رجال الطائف ضمانة للعيش سوية، بل وهذا قد يكون الأهمّ، تحويل الشرعية من «شرعية الأمر الواقع» إلى شرعية مشروطة ومعلّقة وقابلة للنقض دائمًا.
اتفاق الطائف وُجِد لكي لا يُطبّق، شبح جاهز للاستدعاء كلما عاد الشبح الآخر إلى الحياة، شبح العنف.
هل يمكن للشبح أن يموت؟
شرعيّة اتفاق وطيفُه، ذكرى الحرب كفعالية سياسية، رجال الطائف ومعارضاتهم، البحث عن ناظم مشترك للسياسة… أفكار أو مفاهيم باتت اليوم أشبه بأحلام أو أوهام عالم ولّى، مثلها مثل سعر الصرف الرسمي أو كهرباء لبنان أو الماء من دون كوليرا. باتت أشبه بأجسام مهترئة، نرى في ركامها صوراً عن أوهام الماضي ورغباته، أجسام تواجهنا باهترائها كتذكير يوميّ بثمن الأوهام، أكانت سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية. الأشباح أيضًا تموت، ربّما من الضجر أو من العجز. فحتى هي تحتاج إلى بعض الأمل كي تستمرّ على قيد الحياة.
من الصعب اليوم الدفاع أو الهجوم عن اتفاقية الطائف. فرغم الضجيج حولها، بين من يريد تعديلها ومن يريد الدفاع عنها، ما من قوى سياسية معنية اليوم جديًا به، هجومًا أو دفاعًا. ما يبقى من هذا الاتفاق اليوم هو مؤتمر هجين نظّمته السعودية دفاعًا عنه، أي عن السنّة بمفهومها السياسي، وذلك بعدما فهمت أن هذا النص، مهما كان مهترئًا، بات أقلّ اهتراءً من سعد الحريري. الطائف جثّة، ولا أحد معنيّ بدفنها. قاتلها، أو قاتلوها معروفو الهوية، قتلوها بوسط النهار، على مدار ثلاثة عقود. بدأت الجريمة مع لحظة التطبيق الأولى على يد الوصاية السورية واستمرت على أيدي ورثتها، في شقّهم المحاصصتيّ وشقّهم التعطيلي. وما من دلالة على اكتمال الجريمة إلّا الصورة الحالية للنظام الذي يعاني من أزمة رئاسية وانقسام مؤسستي وانهيار في العملة وعودة للميليشيات وفقدان تام للشرعية.
انهار الطائف وقرّر من لم يعترف به أصلًا أن يعاود المحاولة، أن يعاود طلب فدية جديدة من المجتمع مقابل عدم إرساله الى جهنم مجدّدًا. انهار الطائف على يد الجميع، لكن هناك بعض الأطراف التي ترى في هذا الانهيار فرصة، كما رأت من قبل في انفجار المرفأ فرصة، أطراف لا تخشى أن تعيد القتل والانقسام والإلغاء إلى الساحة السياسية، أطراف اعتبرت أصلًا أن الحرب الأهلية لا تعنيها لأنّها إمّا «مقاومة» أو «شرعية عسكرية»، أطراف تخشى أصلاً فكرة «المجتمع»، فلا ترتاح إلّا إن كان رهينة.
انهيار الطائف ليس أزمة نظام فحسب، انهياره مأزق للمعارضات أيضًا. فمع ابتعاد ذكرى العنف عن الوعي الجماعي، فقدت تلك المعارضات علاقتها بمجتمع شكّل العنف إحدى ميزاته الأساسية. ومع انهيار الطائف كناظم للحياة السياسية، مهما كان هشّا، لم يعد هناك لغة مشتركة أو حقل موحّد يمكن للمعارضات والسلطة أن تتصارع من حوله. بدل الطائف، جاءت نظرية القطيعة التي وإن كانت مبرّرة أمام انحدار السلطة، أصبحت خطيرة لفقدانها لأي حساسية أو مفهوم للعنف. انهيار الطائف هو انهيار للنظام وانحلال للمجتمع السياسي وعزلة للمعارضات.
«لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» عبارة من الصعب استعمالها في وجه سلطة باتت تناقض العيش.