نص وآليّة ولحظة
في مناخ عام من الاستقطاب، تعيشه البلاد منذ 3 سنوات، بين من يريد تثبيت اتفاق الطائف إلى حدّ تقديسه واشتراط تطبيقه «كما هو» قبل إصدار أيّ حكم عليه، ومن يدعو إلى تخطّيه أو نسفه للانتقال إلى «نظام جديد»، بات مفيداً العودة إلى بعض الأساسيات المتعلّقة بهذا الإتفاق، بما هو نصّ وآلية ولحظة معاً. فالفصل بينهم يحمل في طيّاته غالباً احتمال التأويلات والاستنتاجات المبتورة. فإذا وضعنا الجوانب الدستورية- القانونية جانباً للحظة، يبدو مهماً التذكير بخصوصيات ثلاث، على الأقل، لهذا الإتفاق.
ازدواجيّة العقد الاجتماعي واتفاق وقف إطلاق النار
الخصوصية الأولى، المتأتّية من اللحظة التاريخية المحيطة باتفاق الطائف، هي أن الاتفاق كان متأرجحاً، منذ ولادته، بين كونه «سوبر» اتفاق لوقف إطلاق النار في خضمّ حرب كانت تشرف على عامها الـ15- أي آخر محاولة، ناجحة هذه المرة، لوقف الاقتتال- وكونه معاهدة بنيوية تعيد اصطفاف العقد اللبناني والحياة السياسية بعد الفتنة الكبيرة- أي «تسوية تاريخية» تطمح إلى الإجابة شبه النهائية على كافة المعضلات الشائكة في المسألة اللبنانية، والمعلّقة منذ حوالي نصف قرن.
على الضفة الأولى من هذه القراءة، يمكن قراءة الاتفاق من بابه الأمني، من خلال التركيز على البنود ذات علاقة بحلّ الميليشيات وتسليم سلاحها (وهو بند لا يزال استكماله معلّقاً)، أو المتعلّقة برسم معالم خطوط الانسحابات العسكرية من هنا وهناك، وبشكل أساسي انسحاب القوات السورية إلى حد خط ضهر البيدر.
أما على الضفة الثانية من هذه القراءة للاتفاق، أي الاتفاق كإعادة هيكلة للعقد الاجتماعي، فيصبح التركيز على فصول الإصلاحات الهيكلية للنظام السياسي هو الأساس، تلك الفصول الداعية إلى تحويل النظام أو على الأقلّ إلى ترميمه وإعادة تشغيله، انطلاقاً من تراث طويل من النصوص والمحاولات السابقة للوصول إلى ذلك.
لعلّ أحد أهم جوانب الإحباط الذي تولّده قراءة اتفاق الطائف إن وُضع أمام مرآة المحنة الطويلة التي شكلتها حرب لبنان طوال عقد ونصف، هو سؤال الوقت: لماذا استوجب 15 سنة من المطحنة الرهيبة لإقرار إصلاحات كانت موجودة منذ بداية الحرب؟
فيمكن السؤال عن ضرورة 15 سنة من الاقتتال الداخلي لانتقال السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، في حين كان هذا الإصلاح مقراً به ومتّفقاً على منطقه منذ «الوثيقة الدستورية» للرئيس سليمان فرنجية في عام 1975-1976. كما يمكن التساؤل عن كيفية انتهاء حرب دموية طالت لسنوات بإصلاح طفيف كالانتقال من توازن الـ5/6 لمناصفة الـ5/5 في مجلس النواب. أو يمكن استغراب تحوّل عنوان كإلغاء الطائفية السياسية إلى فقرة في الاتفاق بعدما شكّل إحدى صواعق الحرب الأساسية.
كلّ هذه الأمثلة للقول إنّ اتفاق الطائف شكّل أصغر مشترك ممكن بين مشاريع إصلاحية، بدأ صدورها قبل الحرب أو عشيّتها وتتالت خلالها دون ملاقاة ميزان القوى الكافي والناجع لترجمتها واقعاً سياسياً. فتحوّل نص الاتفاق إلى ملخّص لهذه المشاريع والأوراق، ملخّص تمّ تحريره وكتابته على عجل أحياناً، تحت وطأة المعارك المشتعلة على محاور البلد. فمن هنا يمكن فهم جانبَي الاتفاق، والمنافسة الضمنية بين الطائف كاتفاق لوقف إطلاق النار والطائف كإعادة إنتاج لعقد اجتماعي جديد.
اتفاق لبنانيّ مرهون بلحظة جيوسياسيّة
بما أنّ الخارج، القريب والبعيد، واضح في تكوين اتّفاق الطائف، يبقى ضرورياً التذكير بالمعطى الجيوسياسي العام المحيط بالاتفاق وبلحظته، وهو المكوّن لخصوصيّة الإتفاق الثانية.
إذا ما اتّفقنا على مقولة أنّ حرب لبنان كانت، أو بجانب واسع منها على الأقلّ، الحلبة المفتوحة لصراعات أُخرى إقليمية، لا يمكن فهم إغلاق صفحة الحرب هذه دون لحظ مسارات تلك الديناميات الخارجية آنذاك، وتأثير تلك العوامل على شروط استمرار النزاع اللبناني ومن ثمّ وقفه، خاصةً أنّ المعطى الخارجي آنذاك كان منعطفاً تاريخياً كبيرًا في سياق تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة. فتقاطعت في لحظة إنهاء الحرب اللبنانية، وبالتالي لحظة إنتاج اتفاق الطائف، ثلاثة تحوّلات مهمّة.
- انتهاء الحرب الباردة وسقوط أحد المعسكرَيْن الدوليَّيْن، مع ما عناه ذلك لمسار الحروب «الجانبية» (بمعنى الجارية على ضفاف النظام الدولي)، وللمعادلة المحيطة بلبنان، من أفول الداعم الدولي الأساسي لسوريا النظام كما لقوىً أُخرى في المنطقة.
- ترافق ذلك مع إطلاق مسار إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي في مدريد، عبر مؤتمر سلام أرادته القوى المنتصرة في الحرب الباردة كأوّل اختبار لقدرتها الأحاديّة على إعادة تنظيم الأقاليم في العالم، مستفيدة أيضاً من وهج الدرس العسكري الذي أعطته للعالم عبر دحر النظام العراقي من الكويت، وما رافق ذلك من إعادة اصطفاف سريعة لسوريا في المعادلة العالمية والإقليمية الجديدة.
- أمّا في الساحة اللبنانية، فأدّى مسلسل «الحروب الصغيرة» بين الطوائف أولاً ومن ثمّ داخلها، إلى إنهاك كافة اللاعبين المحليين، وتالياً إلى إلغاء أي امكانية لرفضهم أو ممانعتهم لأيّ حلً يُفرَض، في ترجمة فاقعة للمقولة الشهيرة أن «العراك توقّف بسبب انتهاء المُتعاركين». وهذا ما أوصل بعض الدول الوصيّة على مكوّنات لبنانية منهكة إلى الاقتناع بأن أيّ حلّ، مهما بدا سيّئاً، يبقى أفضل من الاستمرار بنزيف بات دون أفق.
ازدواجيّة الداخل والخارج
تكمن خصوصيّة اتفاق الطائف الثالثة، والناتجة عن خريطة القوى السياسية عند لحظة انتهاء حرب لبنان، في أن الاتفاق بُنِيَ كبناء بجناحَيْن أيضًا، يصعب الفصل بينهما، تحت خطر تزعزُع أسس المبنى أو تعطيل جزء كبير من وظائفه. فلا يوجد اتّفاقات كثيرة في تاريخ حلّ النزاعات المعاصرة، مزجت كما خلط اتفاق الطائف بين الشقّ المحلي/ الوطني/ الداخلي (الإصلاحات وإعادة توزيع حصص السلطة والإشتراك فيها)، والشق الخارجي/ الإقليمي/ الجيوسياسي (الموضوع السوري ودور سوريا في رعاية الاتفاق وتطبيقه)، على الأقلّ كتابةً وبوضوح كما يرِد في الاتّفاق ونصّه.
فيما عكف الشقّ الأول على إعادة تنظيم السلطات وتوزيع السلطة والنفوذ على القوى والطوائف وهنا، تحت مظلّة المناصفة الإسلامية- المسيحية في مجلس النواب، تطلّ «المثالثة» لتطرح إعادة توازن مختلفة بين مجلس الوزراء المُختزلة سلطته الفعليّة برئيسه السنّي، والبرلمان الذي تضاعفت صلاحيات رأسه الشيعي، والقصر الرئاسي الذي بات مكمنَ اجتماعات «الترويكا» عشيّة كلّ اجتماع لمجلس الوزراء.، قونَنَ الشقّ الثاني الوصاية السورية على لبنان وحياته السياسية، وربطها عضوياً بالشقّ الأول، كون الإنسحاب العسكري لن يتحقّق إلا بعد إلغاء الطائفية السياسية، غير الواضح في نص الشقّ الأول من الاتفاقية والملحوظ بإبهام في آلية مفتوحة الأفق والسيرورة والنتيجة، حسب المادة 95.
من هنا الطبيعة الفريدة للاتفاق، التي تعطي جزءًا من الداخل حقّ عرقلة مسار فكّ الانتداب المَنوط دولياً بسوريا على لبنان، كما يمنح سوريا حقّ النقد، عبر إدارتها للّعبة السياسية المحلية الفعلية، تجاه أي محاولة لإنهاء وجودها في تفاصيل الحياة اللبنانية، أقله سلمياً.
وهذا ما يمكن أن يؤدّي الى استنتاج، أو على الأقلّ إلى التساؤل، عما إذا كان إخراج العامل السوري من المعادلة اللبنانية عام 2005، لا يُنهي حكماً اتفاق الطائف كما بُنِيَ ازدواجيّاً، خاصة أن انتقال الإدارة السياسية في لبنان من معادلة إلى أُخرى، حصل دون آليات تسمح بتسيير الوضع الجديد، وفي غياب أي نقاش لبناني حقيقي وجادّ حول سبل إدارة الوضع الجديد بعد خروج المكوّن الإقليمي من المعادلة.
إنّ إعادة سرد هذه الخصوصيات الثلاث لاتفاق الطائف لا تغني طبعاً عن ضرورة تفكيك نصّ الاتفاق نفسه، ودراسة جوانبه الدستورية والقانونية، كما لا يفي وحده بغرض فهم كيفيات تطبيق الإتفاق أو عدمه، أو قراءة سلوك القوى التي عاشت سياسياً في ظله، والتي يقع عليها اليوم خيار تمديد هيكله العظمي أو الانتقال إلى ورشة أُخرى، إن أمكن.
قد يضيء سرد ذلك جانباً من تاريخ اتفاق الطائف ومن حكايته، علّه يُضاف الآن إلى السرديات الدائرة حوله، تبجيلاً أو تحقيراً، فيُعاد وضعه في إطار تاريخي، يستحيل دونه فهم بعض جوانب هذا الاتفاق ومآلاته. وما التذكير ببعض مكوّناته الجينيّة التي يشكّل التغاضي عنها سبباً للنقاش «التغييبي» من حوله، إلا مدخلاً للتفكير الواقعي بتطويره، بتخطّيه، أو حتى بتطبيقه.