مثّل نصّ اتفاق الطائف الذي رعته دولٌ عربية بموافقة أميركية في لحظة تحوّلات كبرى في العالم، تطويراً أو توسيعاً لنصوصٍ عديدة سبقته (الوثيقة الدستورية العام 1976 والاتفاق الثلاثي العام 1985). أجهض السير بها وقت إنجازها رفضٌ محلّي حادّ أو اعتراض إقليمي حاسم في مراحل لم يكن فيها أوان الحلول السياسية قد نضج داخلياً وخارجياً.
والواقع أن العام 1989، عام توقيع الطائف، وعلى العكس من التواريخ السابقة، شهد تفاهماً سورياً سعودياً (ومصرياً وجزائرياً) لإنهاء الحرب في لبنان. رضيت الولايات المتحدة عن هذا التفاهم، وهي الباحثة عن تموضع جديد في مناطق العالم المختلفة بموازاة الانهيار السوفياتي. وانخرطت في التفاهم المذكور معظم القوى السياسية والطائفية اللبنانية باستثناء واحدةٍ مسيحية مثّل عصبيّتَها قائدُ الجيش آنذاك ميشال عون المدعوم عراقياً والمُتفَهَّم موقفه فرنسياً.
تطلّب الأمر أكثر من عامٍ بين توقيع الاتفاق في مدينة الطائف السعودية وإقراره في المجلس النيابي اللبناني (الممدّد له تكراراً منذ العام 1972)، ومن ثمّ فرضه واجتياح الجيش السوري للمناطق التي كان عون يُعلن عصيانه عليه منها. اتّخذ الامر مسلسلاً من الصراعات الدموية المسيحية على صلة بالاتفاق وبتمثيل المسيحيين من ناحية، ومن ناحية ثانية، تطوّراتٍ إقليمية ودولية جسّدتها الحرب الأميركية على العراق بمشاركة سورية وسعودية ومصرية وأوروبية لتحرير الكويت.
هكذا، استُهلّ العقد الأخير من القرن العشرين في لبنان بانتهاء الحرب وبصيغة حُكم لم تتعدّل فلسفتها، بل حصص المشاركة الطائفية فيها. وحصل الرئيس السوري حافظ الأسد على دور الوصاية السياسية والأمنية لبنانياً في حقبة قيل إنها انتقالية يتخلّلها تطبيق الاتفاق وتنظيم انتخابات برلمانية وإطلاق ورشة إعمار ومواكبة بدء مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية.
تكريس «الشراكة» المارونيّة السنّيّة
يمكن أن نقرأ نصّ اتفاق الطائف انطلاقاً من مستويات ثلاثة، بمعزل عمّا في مقدّمته وخاتمته من إعلانات عن احترام الحرّيات والمساواة بين المواطنين وعن التربية والتعليم والعدالة الاجتماعية، أو من مصطلحات من قبيل «لبنان العربي الانتماء والهوية» و«الوطن النهائي لجميع أبنائه»، وغيرها ممّا هدف الى إرضاء نزاعات محلية متضاربة، ولا معنى لها أصلاً في عالم الهويات المركّبة والمنظومات الناشئة أو الآفلة.
المستوى الأول «فلسفي» قائم على المحافظة على التوافقية الطوائفية بوصفها شرط التعاقد السياسي اللبناني وقاعدته، مع تبديل في حصص المشاركة في المؤسسات وتعديل في بعض الصلاحيات، خاصة تلك المرتبطة برئاسة الجمهورية (المُكرّسة بالنص مارونياً) والمتراجِعة لصالح رئاسة الحكومة (المكرّسة بدورها سنّياً) والحكومة مجتمعة حيث المناصفة تحلّ فيها كما في البرلمان وفي وظائف الفئة الأولى محلّ صيغة الـ6 مسيحيين للـ5 مسلمين التي كان يُعمل بها منذ الاستقلال. يعني الأمر أن ثنائية ما سُمّي بالميثاق الوطني العام 1943 المؤسِّسة للاستقلال اللبناني ودولته، أي الثنائية المارونية السنية، ظلّت نظرياً هي الحاكمة والناظمة لسير مؤسسات الدولة بعد الطائف، مع شراكة لرئاسة المجلس النيابي (المكرّسة شيعياً) محصورة في تلقّي مشاريع القوانين والبتّ بإحالتها للمراجعة والتصويت، ولحظ تطويل مدة ولايتها من سنة الى أربع سنوات، وهي عمر ولاية المجلس بعد كل انتخاب.
المستوى الثاني لقراءة الطائف يتعلّق ببعده الإصلاحي الذي تطرّق الى اللامركزية الإدارية والتنمية المتوازنة، واستقلالية القضاء وتعزيز دوره، وإنشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي، والسعي لإلغاء الطائفية السياسية من خلال تشكيل هيئة وطنية ووضع قانون انتخاب جديد محرّر من التمثيل الطائفي مقابل تشكيل مجلس شيوخ طائفي تُحصر فيه القضايا المصيرية.
أما المستوى الثالث، فهو المختصّ بما يمكن تسميته سيادة الدولة على أراضيها، بدءاً من الدعوة الى حل الميليشيات وتعزيز الجيش والقوى الأمنية وصولاً الى القول بتحرير الجنوب المحتل من إسرائيل وتنظيم إعادة انتشار القوات السورية (وتمتين العلاقات بسوريا).
على أن الطائف الذي ترك باباً للإصلاح السياسي- تماماً كما ترك الدستور اللبناني منفذاً لذلك (عبر مقدّمته والعديد من مواده)- وباباً لاستعادة سيادة الدولة وحصر السلاح بأمرتها، طُبِّق على نحو منقوص (أطاح بمستوييه الثاني والثالث)، ولم يؤخَذ منه إلا ما كرّس المسلك الطائفي في السياسة والإدارة. فأُسقِطت بالتالي جميع الإصلاحات القضائية والإدارية والاقتصادية الاجتماعية، وانتفت سيادة الدولة، إذ أصبحت الوصاية السورية عنصر الضبط والفرض أو التوسّط في معظم الشؤون. ثم تعرّض الدستور (ومعه الطائف) إلى تنكيل عبر تعديلات قبيل الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية (مذلّلة بعبارة «مرّة واحدة واستثنائية» لتمريرها دون اعتراضات حقوقية) أفرزت نتائج لا تمثيل مسيحياً جدياً فيها (يُعوِّض نفيَ عون إلى فرنسا وسجن سمير جعجع زعيم ميليشيا القوات اللبنانية).
تحوّل المشهد السياسي إلى ثنائية إعمارٍ يقوده رفيق الحريري المدعوم سعودياً وقتالٍ مضبوط لإسرائيل يقوده حزب الله المدعوم بتفاهم سوريّ إيراني. ويسرح بين قطبي الثنائية هذه رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي ويشكّلان مع الحريري نفسه «ترويكا» تُعهَد إليها التعيينات الإدارية والمشاريع والتعويضات وطلب التحكيم السوري إن استعصى حلٌّ أو تفاقمَ خلافٌ بين المحسوبين على كلٍ من أقطابها.
بمعنى آخر، فرضت القوّتان الشيعيّتان نفسيهما على الدولة من خارج «الطائف» وميثاقيّته المارونية السنّية المتجدّدة. فصار رئيس السلطة التشريعية، ورئيس حركة أمل نبيه بري، شريكاً في السلطة التنفيذية ومعرقلاً لها إن لم يرضَ بتوزيع حصصٍ وبخيارات يُفترض أنه رقيب عليها وليس من صنّاعها. وصار حزب الله غير المجرّد من سلاحه طرفاً أساسياً في صنع السياسة الخارجية للدولة، ومسؤولاً عن شؤون الحرب والسلم والأمن فيها، وفقاً لإيقاعٍ تضبطه تفاهمات دمشق وطهران، غير الصداميّتين بعدُ مع الإيقاعات السعودية والفرنسية (والى حدّ ما الأميركية) في البلد والمنطقة.
الشيعيّة السياسيّة والتبدّلات الميدانيّة
على أن تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي وموت حافظ الأسد وتوريثه السلطة لابنه بشار في العام 2000 مثّلا إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في لبنان، أطلقت معارضةً داخلية واسعة للهيمنة السورية ولسلاح حزب الله المُتَمَسَّك به رغم الاندحار الإسرائيلي.
جاء الاجتياح الأميركي الثاني للعراق العام 2003 (بعد اجتياح أفغانستان إثر هجمات 11 أيلول) وإسقاطه هذه المرّة نظام صدام حسين واحتلاله بغداد ليبدّل من المعادلات الإقليمية الراسخة منذ الحرب الأميركية الأولى في المنطقة تحريراً للكويت العام 1991. كان مسار مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية قد ترنّح تدريجياً بعد العام 1996 نتيجة استمرار الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية ورفض القبول بتسويات في القدس وفي مناطق عديدة بينها الجولان السوري المحتلّ. وانتهت مفاعيل الموافقة الأميركية على تفويض سوريا إدارة الشؤون اللبنانية في العام 2001 مع انتهاء وظائف التفويض المذكور والحاجة إليه. كل ذلك في لحظة بدء صعودٍ إيراني في المنطقة يَسَّر مهمّتَه سقوطُ نظامَيْن معاديَين لطهران على حدودها الشرقية ثم الغربية (في كابول وبغداد) وارتفاع قياسي في أسعار النفط.
انعكس هذا على الساحة اللبنانية توتّراتٍ وتشكيلَ تحالفاتٍ سياسية وطائفية كبرى. وقد عجّل القرار الأممي 1559 المدفوع إليه فرنسياً وأميركياً العام 2004 والردّ السوري عليه واغتيال الحريري في شباط 2005 في جعلها مواجهةً بين معظم القوى السنّية والمسيحية والدرزية من جهة، والنظام السوري والقوّتين الشيعيّتين حزب الله وحركة أمل (وقوى هامشية من الطوائف الأُخرى)، من جهة ثانية. واستمرّت المواجهة رغم الانسحاب العسكري السوري القسري في نيسان من العام ذاته، عقب التظاهرات الضخمة في بيروت في آذار والضغوط الدولية والعربية على دمشق.
اندفع حزب الله بدعم إيراني للعب الدور الذي سبق للنظام السوري أن لعبه لبنانياً أيام حافظ الأسد، أي فرض السطوة الأمنية ورسم السياسة الخارجية وترك جوانب من إدارة الاقتصاد والخدمات للطبقة السياسية واتفاقاتها حيث المريدون والخصوم. حاول ورثة الحريرية وحلفاؤهم، بدعم سعودي وغربي، استيعاب الاندفاع الحزب-إلهي ومحاصرته، عبر الانتخابات التشريعية وطلب التحقيق الدولي باغتيال الحريري وما لحقه من اغتيالات. تبدّلت في غمرة ذلك التحالفات مع انتقال ميشال عون العائد من منفاه الباريسي وخروج سمير جعجع من السجن. وبدا أن القسمة الفعلية الجديدة في البلد صارت قسمة سياسية ومذهبية شيعية سنية يختلف المسيحيون على الموقف منها فتتوزّع قواهم الأساسية على معسكرَيْها، في حين يميل الدروز الى المعسكر السنّي ومثلهم يفعل– لأسباب سياسية– قسم من العلمانيين أو «خوارج» الطوائف.
انتفى وسط صخب المشهد المذكور والتدخّلات الخارجية لرسم حدود الاشتباك والتعايش فيه، ووسط حرب ضروس بين إسرائيل وحزب الله، معنى «الطائف» ومعنى الدستور والمؤسسات وفصل السلطات. تحوّلت التوافقية إلى دينامية تعطيل إذ تؤخذ ذريعة للحؤول دون نصاب نيابي أو حكومي وتعطيل استحقاق انتخاب رئاسي ومنع تعيينات إدارية وإقرار موازنة، وذلك بمعزل عن أكثرية وأقلّية أفرزتها الانتخابات التشريعية مرّتين: العام 2005 والعام 2009. وبرزت استناداً إلى ما أورده «الطائف» من أكثرية الثلثين للقرارات الحيوية مقولة فيتو «الثلث زائد واحد»، وشُلّ البلد لسنوات تخلّلتها صدامات أهلية نجح «اتفاق الدوحة» المرعي قطرياً وفرنسياً في لجمها.
ثمّ جاءت الثورات العربيّة والثورات المضادة والمقتلة السورية ووصول مئات ألوف اللاجئين الى لبنان بدءاً من العام 2012، وجاء معها التمدّد الإيراني والانكفاء السعودي بعد اندلاع حرب اليمن العام 2015، لتترك البلد فريسةً لنزاعات سياسية جديدة وصفقات فساد يصاحبها تدهور مالي واقتصادي وخدماتي على جميع الصعد. وسط ذلك، نجح حزب الله، بعد فرض حليفه عون رئيساً للجمهوريّة وبقبولٍ حريريّ مصلحيّ العام 2016، في فرض حكومة «توافق» لا تتعرّض لأيٍ من تحالفاته الخارجية، ثم نجح في انتخابات العام 2018 التشريعية في انتزاع أكثرية نيابية، وباتت سيطرته وحلفاءه كاملة على مراكز صنع القرار، التي يكتفي خصومه فيها بإدارة وزاراتهم وما تيسّر من مغانمها والاستمرار في الاستدانة من المصارف الخاصة لتمويل إنفاق باهظ الكلفة.
الطائف الذي اختفى أثرُه
جاءت الانتفاضة الشعبية العام 2019 بعد سلسلة فضائح للطبقة السياسية لتعبّر عن معارضة قسم كبير من اللبنانيين للتشكيلة الحاكمة بكامل مكوّناتها، أو بمعظم هذه المكوّنات. وعبّرت أيضاً عن ميل لدى القسم الأكثر جذريّة بين المنخرطين فيها لتخطّي الطائفية والخروج من الصيغة التوافقيّة برمّتها، دستورية كانت أو عرفية.
لكن الانتفاضة غُدِرت، إذ أنهكتها ثورة مضادة قادها حزب الله سياسياً وميدانياً، وأطاحت بها انهيارات مالية واقتصادية تسارعت، برفقة جائحة كورونا التي أنهت كل التحرّكات الشعبية. ثم قضى عليها واحدٌ من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، مدمّراً مرفأ بيروت وبعض الأحياء القريبة منه، وطارداً عشرات الآلاف من اللبنانيين إلى مهاجر ومنافٍ مختلفة.
لم تؤدّ الانتخابات التشريعية العام 2022 إلى ترجمة الانتفاضة الى أجندة سياسية برلمانية، بل أنتجت مجلساً نيابياً مفكّكاً، ليس بمقدوره اليوم انتخاب رئيس جمهورية، ولا بمقدوره التشريع ولا حتى مراقبة حكومة تصريف أعمال تتابع الانهيار المالي والاقتصادي وتعرقل التحقيقات في أسبابه كما في أسباب انفجار المرفأ. وظلّ حزب الله القوّة الأكثر تنظيماً وحضوراً، تقابله مسيحياً القوات اللبنانية، في حين تراجعت الحريرية ومن خلفها «السنية السياسية» إلى أضعف مستوياتها.
يصعب اليوم، بعد التجارب المذكورة جميعها، ومع التبدّلات السياسية وتغيّر موازين القوى الداخلية، وفي ظّل ما يُحكى عن خصائص الديموغرافيا الطائفية والمذهبية من جهة، والانكفاء الإقليمي للسعودية وتراجع الاهتمام الأميركي مقابل استمرار إيران في الدفاع عن مواقعها من جهة ثانية، الاكتفاء بالحديث عن «عودةٍ الى الطائف» أو عن تطبيق ما أُسقط منه في ما خصّ الإصلاحات وسيادة الدولة. ليس لأن لا فرص ممكنة لهذه العودة أو لهذا التطبيق فحسب، مع طبقة سياسية لا تقبل مكوّناتها كلٌّ لأسبابها بالأمر، بل أيضاً لأن مسألتين تبرزان عند البحث بأي عقد سياسي جديد أو متجدّد.
الأولى يصحّ تسميتها بالمسألة الشيعية، ومفادها أن حزب الله (ومعه حركة أمل) يبحث عن تثبيت «شيعية سياسية» لا تكتفي بدور المضارب من الخارج على الثنائية التاريخية المارونية السنية. وهذا يتطلّب ما يشبه المثالثة في الحُكم والمؤسسات عوض المناصفة.
والمسألة الثانية تتّصل بالثقافة السياسية لجيل جديد من اللبنانيين واللبنانيات من طوائف مختلفة لم تعد بالضرورة توّاقة لنفس الصيغ التوافقية أو «الميثاقية» التي وفّرها الطائف بمعزل عن موقفها من الطائفية وأشكال تخطّيها. فهي اختبرت كيف أوصلت الصيغ المذكورة والقوى المستظلّة بها البلد إلى الخراب المُعمّم. وهي تُدرك أن الإبقاء على القدرة التعطيلية من داخل المؤسسات ما إن ينشب خلاف أو يفشل طرف في فرض خياراته لن يُخرج البلد من محنته المستمرّة.
لهذه الأسباب جميعها، يبدو الإصلاح أو التغيير في الظرف الراهن، استناداً الى اتفاق الطائف أو خروجاً عليه، شديد الصعوبة إذ يتطلّب الحديثَ في أسس تعاقد جديد ليس ثمّة ما يضمن حدوثه في المستقبل القريب. وهذا ما يدفعنا إلى القول إنّ أزمة لبنان ونظامه السياسي ستطول، وإنّ لا جواب اليوم عن أكثر الأسئلة المطروحة، ولا قوىً جديدة منظّمة بعدُ قادرة على البحث عن جواب كهذا.