إنهاء الحرب والوصاية السوريّة
يحمل اتفاق الطائف في ذاكرة اللبنانيين معنيَيْن أساسيَّيْن: مساهمته في وقف الاقتتال الأهلي، وتكريسه للوصاية السورية على لبنان. إذا كان الإنجاز الأول محلّ ترحيب وإجماع، فإن النتيجة الثانية أثارت السخط والانقسام. تحقيق السلام بعد 15 سنة على الحرب، هدف منشود. لكن أن تنتهي هذه الحرب بـ«سلام سوري»، فهذا ما كان كثرٌ يأملون في تجنّبه. إلا أنهم فشلوا، ليس فقط لأن الظروف الداخلية اللبنانية كانت مناسبة نسبياً لتنفيذ الأجندة السورية، بل لأن الظروف الدولية والإقليمية آنذاك، أتاحت لدمشق أن تفرض إملاءاتها.
صدر هذا الاتفاق، أو ما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني، في 22 تشرين الأول 1989، في مدينة الطائف السعودية، إثر مصادقة 62 نائباً على مقترحات اللجنة الثلاثية العربية، المؤلفة من السعودية والجزائر والمغرب. تشكلت هذه اللجنة بقرار من مؤتمر القمة العربية، الذي عقد في الدار البيضاء، في 23 أيار 1989، للاضطلاع بوساطة من أجل وقف الحرب التي بلغت ذروتها مع إطلاق الجنرال ميشال عون حرب التحرير ضد الاحتلال السوري في 14 آذار 1989. بعد مخاض عسير، تكلل الدور العربي بالنجاح، وسط ترحيب ودعم من قبل مجلس الأمن الدولي.
كان هناك رابح، هو سوريا مع حلفائها، وخاسر، هو ميشال عون والمسيحيّون عموماً.
فما هي تلك الظروف التي جعلت كل ذلك ممكناً؟
استدارة أميركيّة لصالح «السلام السوري» في لبنان
أتى اتفاق الطائف في سياق استدارة أميركية بدأت تتبلور اعتباراً من منتصف 1987 لصالح «السلام السوري» في لبنان.
لهذا التحوّل دوافع تتعلّق بمكافحة الإرهاب. فكانت واشنطن تنظر إلى تنامي قوّة حزب الله، حليف إيران، باعتباره تحدياً كبيراً. كان دورُه يقلقها منذ اعتداء 23 تشرين الأول 1983 ضد قوات المارينز والفرنسيين في بيروت ويستنزفها من خلال عمليات خطف الرهائن الأميركيين والغربيين في لبنان آنذاك. شكّلت أزمة الرهائن مفتاح عودة التواصل بين واشنطن ودمشق التي استفادت من دورها كوسيط في الإفراج عن رهائن غربيين. فاعتبر الأميركيون أن الجيش السوري هو وحده القادر على ضبط حزب الله وتجنب تعزيز نفوذ إيران في لبنان. وكانوا يتطلعون إلى تسوية لبنانية- لبنانية لانتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية خلفاً لأمين الجميّل، في أيلول 1988، وذلك بالتوافق مع سوريا ضمن حلّ شامل ينصّ على تعديلات دستورية من شأنها أن تحقق التوازن بين الطوائف التي تتقاسم السلطة السياسية.
هنا برزت تطوّرات محلية وإقليمية أدّت إلى تسارع وتيرة إقرار اتفاق الطائف.
سيطرة النظام السوري لـ«وقف الاشتباكات»
انقسامات في «الشرقية» وانقسام المؤسسات
النفوذ العراقي و«حرب التحرير»
بعد رفْض القوى المسيحية للمرشح الأميركي- السوري، ودخول لبنان في أزمة فراغ رئاسي معطوفة على أزمة الشرعية بين حكومة ميشال عون العسكرية وحكومة سليم الحص، أطلق الجنرال عون «حرب التحرير».
كان عون متحالفاً مع نظام صدّام حسين في العراق، الذي كان قد خرج لتوّه من حربه مع إيران (1980-1988)، متعطشاً لتأدية دور الزعامة الإقليمية، كونه قاتل إيران نيابةً عن العرب، وكون العراق يمثّل «حصناً منيعاً» بوجه التوسّع الإيراني. أضف إلى ذلك حالة العداء المتأصّل بين صدام حسين وحافظ الأسد الذي انحاز لإيران ضد العراق، ما جعل صدّام عازماً على إضعاف النفوذ السوري في لبنان، فدعم كلاً من جيش ميشال عون والقوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، ومَدَّهُما بالسلاح.
هذا الترابط بين السعي العراقي الصريح لإخراج الجيش السوري من لبنان وطموح الزعامة الإقليمية، كان يثير أصلاً قلق السعودية. يتعلق الأمر هنا بتفصيل غير بسيط. فالسياسة السعودية رفضت أن يتحول الملف اللبناني إلى ورقة رابحة للعراق تزيد من رصيده الإقليمي. هكذا، أدّت دوراً محورياً أثناء حرب التحرير، في إطار اللجنة العربية الثلاثية التي تشكلت في قمة الدار البيضاء. وحظيت الوساطة العربية بدعم أميركي وسوفياتي وفرنسي.
«حرب التحرير» والتفاوض في الطائف
مفاوضات في الميدان
بين 23 أيار، تاريخ بدء المهمة العربية، و22 تشرين الأول 1989، تاريخ إقرار اتفاق الطائف، كان الميدان سيّد الموقف.
تعثّرت، أواخر تموز 1989، المفاوضات التي كانت تقودها اللجنة العربية الثلاثية للتوصل إلى اتفاق سياسي، بسبب التعنّت السوري. وحمّلت اللجنة سوريا مسؤولية الفشل. والحال أن حافظ الأسد أراد وحاول تجنّب أو تأخير البحث في مسألة انسحاب الجيش السوري واستعادة لبنان لسيادته. كانت أولويته تتمثل في إقرار الإصلاحات أوّلاً، ثم انتخاب رئيس للجمهورية بما يكرس وصايته على هذا البلد. وشهد شهر آب تصعيداً سورياً عنيفاً ضد معاقل عون، وكادت المنطقة المسيحية أن تسقط عسكرياً.
تجنباً لسيناريو كهذا، تحركت فرنسا ومارست ضغطاً. في خطوة مفاجئة، أرسلت أسطولاً عسكرياً إلى شرق البحر المتوسط. الهدف المعلن لهذه التعبئة لم يكن التدخل المباشر في الحرب لصالح عون، بل مواكبة عمليات الإغاثة الإنسانية التي كانت تقدمها فرق فرنسية في كل من بيروت الشرقية والغربية. لكن باريس حاولت سراً، ومن دون جدوى، إقناع واشنطن بتدخّل دولي.
في المحصلة، ساهم هذا التحرّك الفرنسي في إعادة التوازن إلى المفاوضات التي كانت تقودها اللجنة العربية، وصولاً إلى إنتاج اتفاق غير ملائم كلياً للشروط السورية. وهذا انعكس في مسألة الجدول الزمني للانسحاب السوري بحلول عامين على بدء تنفيذ العملية السياسية السلمية في لبنان.
انتخابان واغتيال وتمرّد
عاد النواب اللبنانيون من مدينة الطائف وانتخبوا رينيه معوض رئيساً للجمهورية في الخامس من تشرين الثاني 1989. إلا أنه اغتيل في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، في تفجير تُحمَّل سوريا المسؤولية عنه، كون معوض حاول حل المشكلة مع عون بواسطة الحوار، فضلاً عن كونه لم يكن مستعداً، على ما يبدو، أن يتحوّل إلى رئيس دمية بيد النظام السوري. لكن تم ملء الفراغ الرئاسي بسرعة، مع انتخاب الياس الهراوي خلفاً لمعوض، في 24 تشرين الثاني. وبدا أن دمشق استفادت من الدعم الدولي والعربي لاتفاق الطائف، لكنها أرادت أن تفرض أمراً واقعاً بالقوة، ومنع قيام حكم يمتلك حدّاً أدنى من هامش المناورة أو ينوي العمل فعلاً على إخراج الجيش السوري من لبنان لاحقاً.
اعتباراَ من خريف 1989، بدأ التعامل مع عون باعتباره «متمرّداً» على ما بات يوصف بالشرعية اللبنانية المعترف بها دولياً. وفي أواخر كانون الثاني 1990، اندلعت «حرب الإلغاء» بين جيش عون والقوات اللبنانية. وهي الحرب التي أنهكت الطرفين، لكنها أظهرت مدى العزلة التي عانى منها عون. وفي صيف 1990، بدا عاجزاً عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ففي 21 آب 1990، صادق البرلمان اللبناني على التعديلات الدستورية التي أقرها اتفاق الطائف. وبعد شهر، في 21 أيلول، وقّع رئيس الجمهورية، الهرواي، على التعديلات، ليتمّ الإعلان رسمياً عن ولادة الجمهورية اللبنانية الثانية.
بعد أسبوع، بدأ الجيش الذي يقوده الجنرال إميل لحود محاصرة معاقل عون الذي ظل يمثّل عقبة داخلية أمام تنفيذ اتفاق الطائف، لم يمكن ممكناً تجاوزها لولا العوامل الدولية والإقليمية المساعدة.
العراق مجدّدًا
يتعلق الأمر أولاً بغزو العراق، حليف عون، للكويت، في الثاني من آب 1990. لعلّ صدّام حسين كان يأمل بأن يغضّ المجتمع الدولي النظر عن احتلال الكويت وضمّها، كما يفعل مع الاحتلال السوري للبنان. بيد أن رد الفعل الأممي والغربي كان متشدداً للغاية معه، وبدأت واشنطن تشكيل تحالف دولي للتدخل العسكري وإجبار العراق على الانسحاب إذا رفض الاستجابة من تلقاء نفسه لقرارات مجلس الأمن في هذا الصدد.
لسوء حظ عون، أيّدت سوريا فكرة هذا التدخّل منذ آب 1990. وشاركت لاحقاً في التحالف الذي بدأ عملياته لتحرير الكويت في 17 كانون الثاني 1991. وهما موقف وتصرّف حصدت ثمارهما في لبنان من خلال ما يمكن وصفه بالموافقة الأميركية الضمنية على الحسم العسكري السوري ضد ميشال عون في 13 تشرين الأول 1990.
حسم أسديّ بمباركة أميركية
سوريا والنظام العالمي الجديد
أكثر من ذلك، أدرك حافظ الأسد أن الشرق الأوسط، بعد حرب تحرير الكويت والدور الأميركي الحاسم فيها، لن يكون كما قبلها. فالولايات المتحدة حقّقت، نتيجة الحرب، تفوقاً استراتيجياً في هذه المنطقة. وحصل ذلك بالتزامن مع بداية نهاية الحرب الباردة وبدء تراجع تأثير الاتحاد السوفياتي في العالم، لا سيما منذ انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989. وقد التقط نظام حافظ الأسد مبكراً دلالات هذا التحول ومعنى تراجع قوة سنده الدولي، ما دفعه إلى مزيد من التعاون مع الولايات المتحدة التي روّجت لقيام «نظام عالمي جديد»، تميّز بحكم الواقع بالأحادية القطبية الأميركية.
وانطلاقاً من تفوقها الاستراتيجي هذا، أطلقت واشنطن مبادرة من أجل السلام في الشرق الأوسط وفق مبدأ الأرض مقابل السلام. يتعلق الأمر إذاً بمسار لن يُكتَب له النجاح من دون مشاركة سوريا. وبالفعل، هذا ما تحقق مع موافقة حافظ الأسد على الانضمام إلى مؤتمر مدريد للسلام، الذي عقد بين 30 تشرين الأول والأول من تشرين الثاني 1991.
كل هذه التحولات والوقائع التي تلت ولادة اتفاق الطائف، عززت من مكانة سوريا باعتبارها شريكاً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولو أن تلك الشراكة لم تقم على أسس متينة. لكن الحاجة الأميركية لسوريا في تلك الحقبة، سواء لكي تكون الأخيرة جزءاً من الغطاء العربي للتدخل العسكري الأميركي ضد العراق، أو لكي تكون جزءاً من مسار السلام بين العرب وإسرائيل، صبّت في مصلحة الأجندة السورية في لبنان، على حساب عون، وعلى حساب سيادة هذا البلد، ولكن أيضاً على حساب اتفاق الطائف نفسه، الذي لم يُنفّذ منه إلا ما يحلو لسوريا وما يناسب مصالحها.
تثبيت الوصاية السورية من خلال الطائف
المراجع
- عبدالله بو حبيب، الضوء الأصفر، السياسة الأميركية تجاه لبنان، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2006
- Elie Salem, Violence and diplomacy in Lebanon: The Troubled Years, 1982-1988, London: I. B. Tauris, 1995
- Georges Corm, Le Liban contemporain. Histoire et société, Paris: La Découverte, 2012
- Gérard Araud, Passeport diplomatique. Quarante ans au Quai d'Orsay, Paris: Grasset, 2019
- Nabil el Khoury, Convergences et rivalités des diplomaties française et américaine à l’épreuve des crises libanaises, 1958-2008, Beyrouth: Librairie Antoine, 2016