ليس مِن موتٍ قد يُروّض الرهيب
1.
بدأ الزميل سمير سكيني مقاله عن الإذلال والعنف بسؤالٍ بسيط: هل كان من الضروري أن نُذَلّ؟ السؤال بسيط، والإجابة عنه مخيفة ببساطتها. نعم كان من الضروري لأنّ هذا إذلال مُصمَّم عن سابق تصوّر، كما كتب.
لا تحتاج هذه الفكرة إلى دلائل كثيرة لبرهنتها، ومشاهد الإذلال اليومي تحاصرنا، من تصوير لتعذيبٍ هنا إلى مسرحيات العقاب الجماعي هناك. كما لا نحتاج إلى تلك المشاهد المباشرة والمقزّزة لكي نستشعر تغلغل الذلّ في مجتمعنا وفي أبسط علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والحميمية، حتّى بات يوميًا.
الإذلال، إذًا، مُصمَّم عن سابق تصوّر وبات مكوّنًا ضروريًا من حياتنا اليومي. وهذا يعود إلى وظيفته في نظام قائم على القتل، وهي الحطّ من شأن المعذَّبين قبل قتلهم من أجل تخفيف الشعور بالذنب عند القاتل، كما يكتب سكيني نقلاً عن الكاتب بريمو ليفي، مستلهمًا من تجارب حروبنا الأهلية ومجازرنا الإقليمية. الإذلال، مهما كان قاسيًا ليس إلّا أداة لمغزى أقسى بعد، هو الموت: الإذلال اليومي لتسهيل القتل.
2.
لكنّ هل القتل، وبالتالي الموت، خلاصة الذلّ الحتمية؟
يعرض سكيني في مقاله عبارات عن الموت، تتكرّر في لغتنا المحكية، كإشارة لتداخل الموت في يومياتنا وتغلغله في حياتنا الاجتماعية:
عايشين من قلّة الموت، الموت أريَح، ريتني موت وارتاح، يمَوتونا ويخلصوا مش كان أريَح؟ بعد ناقص يقتلونا، تاركينّا نموت…
لكنّ هذه العبارات لا تشير إلى الموت أو القتل كفعل أو خلاصة بالضرورة، بل تعبّر عن تمنّي الموت، وكأنّ من يطلقها يستشعر أنّ الموت بات غاليًا عليه، أو أنّه بات رخيصًا لدرجة ألّا أحد يتكلّف عناء قتله. ربّما الموت ليس خلاصة الإذلال أو مغزاه المخفي، بل أقرب إلى خَلاص من هذه الحالة، أو نوع من الطمأنة بأنّ هناك حدًا زمنيًا لحالة الذل اللا-متناهية.
فماذا يحدث إذا علّقنا الموت من قراءتنا للذل وواجهنا احتمال الرهيب المفتوح، أي حالة من الذلّ القائم بحد ذاته، ذلٌ لا متناهٍ، ذلٌ لا يضبطه أي خارج، حتى الموت؟ ماذا لو دخلنا في صحراء الذل؟
هل تستطيع الضحية أن تتكلّم؟
1.
طقوس الذل تقوم على ثلاثية المرتكبين والجمهور والضحية. وعندما نواجه تلك الأفعال، نجد أنفسنا تلقائيًا في موقع الجمهور، المطالَب بموقف أو بتفسير. كجمهور، نحاول فهم دوافع المرتكبين، هذا القطيع من الذئاب المتفلّت من أي ضوابط سياسية وأخلاقية والمدفوع بعنفٍ مجاني. نريد أنّ نفهم لأنّ هذا النوع من العنف يهدّد أسس المجتمع، بلا-عقلانيته وعمق مشاعر الكره التي يجسّدها. كجمهور، نحتاج إلى معنى ما، فنبحث في طقوس الذل عن تعويضٍ ما ونبحث في اختيار كبش الفداء عن حاجةٍ إجتماعية.
عملية الإذلال لا تطالنا مباشرة. لكنّنا لسنا بمنأى عنها، حتى كجمهور بعيد يستهلكها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. هناك إذلال بالإنابة كما وصفه سكيني في مقاله، يطال كل من عايش عملية الإذلال، إذلال يحوّلنا كلّنا إلى مشاركين ضمنيين، أو على الأقلّ، إلى مشاهدين فاقدي القدرة على مواجهة هذا العنف. فنسأل أسئلتنا عن الذل من هذا الموقع، من موقع هذا الجمهور المتخيَّل الذي يعاين حدود العنف ومدى تورّطه به. لكنّ لا نسأل السؤال من وجهة نظر الضحية، وكأنّنا نتشارك مع المرتكبين ضرورة إسكاتها، أو على الأقلّ، فرضية أن ليس لديها ما تقوله عن عملية إذلال كانت هي مكوّنها الأساسي.
2.
ربّما السؤال مستحيل. فلا وجهة نظر ممكنة لضحية الذل غير الصمت.
هناك دائمًا لحظة مفصلية، في مشاهد عمليات الإذلال المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي، من لبنان إلى سوريا، لحظة اقتناع الضحية بأنّ الكلام لن ينفع. لا داعي للكلام، للدعاء، للترجّي. الضحية صامتة، ليس لأنّها تدرك أنها مذنبة، بل لأنّها فهمت أن الكلام لن يفيد. هي لحظة القطيعة، القطيعة مع المرتكبين، القطيعة مع اللحظة، القطيعة مع الجسد. في هذه اللحظة، تفدي الضحية بجسدها لقطيع الذئاب قيد الإنشاء. إنّها لحظة القطيعة مع فكرة التواصل، أي تواصل.
هذه هي الدرجة صفر التي ينتجها الذل، وهي قد تكون في مكان ما، أكثر قسوة من الموت. هي تجسيد للموت في الحياة، تلاعبٌ جماعي مع حالة القطيعة المُطلقة التي تُبنى المجتمعات لتفاديها.
صحراء الذل
1.
السياسة لا تحب القطيعة أو اللا-معنى، حتّى في لحظات الخلاف القصوى. وعندما تصطدم باللا-معنى، تحاول فرض أي تفسير له للتهرّب من الرهيب المختبئ وراءه.
اعتدنا بلبنان «الحرب الأهلية» و«الدولة الضعيفة»، المحاط بحروب ومجازر، أن نلخّص السياسة بثنائية الموت والحياة. السياسة، في آخر المطاف، هي صراع حول الموت، حول من يقرّر من يعيش ومن يموت، من يمرّ طيّبًا على الحاجز ومن يُخفى قصرًا، من يقرّر القناص اصطياده ومن يتركه يكمل طريقه، من يقرّر ساعة القصف، من يقرّر سحب مسدسه، من يقرّر إطلاق النار. في هذا التاريخ المفعم بالقتل، باتت السياسة تتمحور حول ثنائية الحياة والموت، لتحوّل كل شيء آخر إلى أداة لها، ومنها الذلّ.
2.
لكنّ السياسة هي أيضًا «إدارة الحياة»، مهما كانت أدوات تلك الإدارة عنفية أو بدائية. إدارة الحياة أي إدارة الحركة وإدارة توزيع المواد وإدارة تقنيات تكثيف الاستغلال والاستعمال وإدارة العنف وإدارة التراتبية الاجتماعية وإدارة المفاهيم. وفي ما يخصّنا هنا، إدارة الفارق بين من يستحق الحياة ومن يمكن الاستغناء عنه. ومن يمكن الاستغناء عنه لا يعني بالضرورة من يجب قتله، ولكنّ من لن تُؤَمَّن له مقوّمات الحياة، فيترك مصيره رهينة تقلّبات الصحّة والسوق والأسعار والطبيعة والعنف. يمكن الاستغناء عنه أي أنّ استغلاله لا يوازي ثمن إعادة إنتاجه كجسد.
الذلّ ليس أداة في خدمة القتل. هو تجسيد لنظام قائم على التراتبية المتحرّكة بين من يستحق الحياة ومن يمكن الاستغناء عنه. هو يجسّد الفارق المتنقّل بين المرتكبين والضحية من خلال طقوسه، يجسّد الدرجة القصوى للاستغناء، حالة العزلة المطبقة. أن تتعمّم حالة الذل، أو أن ننظر إلى حالات الذل من وجهة نظر الضحية هو أن ننظر إلى مجتمع قيد التفكّك، مجتمع يواجه خطر تقطّع أوصاله ويعاني من حالة انفصام معمّمة. هذا الخطر لا يحدّه الموت، يمكن أن يعيد إنتاج ذاته إلى ما لا نهاية. معاينة ذلك لا تتطلّب الكثير، بل فقط الخروج من الحرب الأهلية كمعيارٍ الأساسي للسياسة.
عيون الذل
الذل، كالعار، ينتشر من خلال النظرات، كعدوى بصرية أو لعنة بصرية. الإذلال بالإنابة ينتقل من خلال النظرات، من خلال التناقل المتسارع لمشاهد مصوّرة. ننذَلّ من خلال مشاهدتنا للذلّ. نحتمي من عدوى الذلّ من خلال ابتعاد النظر، من خلال محاولة تجاهل المشهد. لا ننظر بعين أطفال الشوارع، لا ننظر بعين من يسترحم دركيًا، لا ننظر بعين من يحاول استجداء طبيبًا. نحاول وقف عدوى الذلّ من خلال النظر بعيدًا.
لكنّ في المشاهد المصوّرة لحظة أخرى أساسية، ونادرة. لن نجدها في جميع لحظات الإذلال. هي لحظة تحدٍّ، عندما تنظر الضحية في عمق الكاميرا، تخترق نظراتها قطيع الذئاب وجمهوره كي تؤكدّ أن مهما سيجري، فالقطيعة لن تحصل. هي ليست نظرة تحدٍّ أو استرحام، هي مجرّد صلة وصل، تؤكدّ أنّ القطيعة لن تحصل.
قد لا يكون من مقاومة للذل إلّا النظر في عمقه، كما فعل بعض الضحايا. النظر في بشاعة الإنسانية بلا أي مراوغة، ريثما يبقى الذل غير مكتملًا.