لا مفرّ من سؤال الذلّ والإذلال وعلاقته بالعنف المحيط بنا. لا مفرّ منه في سياقنا الحالي.
في مقالٍ أوّل، ميّزتُ بين الذل كنتيجةٍ للانهيار والإذلال المُصَمّم، كمسألة ممنهجة قائمة بذاتها، تنتهي بتحقيرنا والحَطّ من شأن قيمة الضحية، تمهيداً لقتلها السهل، عبر تخفيف الشعور بالذنب عند القاتل. تكلّمتُ أيضاً على واقع الإذلال وصورة الإذلال، ودورها هي الأخرى بإذلالنا بالإنابة.
في مقالٍ ثانٍ للمحرّر سامر فرنجية، اختار تعليق مسألة الموت من قراءتنا للذلّ، ومواجهة «احتمال الفظيع المفتوح»، أي أن يصبح الذلّ آخر مراحل الفظيع، لا القتل. عندئذٍ، نفهم بشكلٍ أفضل من هم عرضة لهذا الإذلال، ومَن هم أولئك الذين «يمكن الاستغناء عنهم بالمجتمع»، ومَن أصبح حتّى أرخص من تكبُّد عناء التخلّص منه.
في هذا المقال، نستكمل مراجعة فرنجية للذلّ من موقع الضحية، ربطاً بسؤال العقاب أو الإفلات منه، ثم نوسّع البحث ليطال الاقتصاد السياسي للذلّ.
وتبقى هذه السلسلة مفتوحة لاستقبال مساهمات إضافية.
إذلال اللاعقاب
كل الفكرة أنّ فعل الإذلال ليس الفعل نفسه وحسب، بل يتضمّن أيضاً ما يسبقه وما يليه. والصبر على الإذلال ممكن، لو علمنا أنّ المُرتَكِب سيُعاقَب. لو كان الأمر فعلاً كذلك، لما بقيت حاجةٌ لكل هذه المقالات. لكانت المسألة بسيطة: من عرّضنا للإذلال اليوم، وبحكم المنطق، سيُحاكَم غداً، ونحصّل شيئاً من العدالة. لكن حكم المنطق يخيب أحياناً، لا سيّما في لبنان. أقصد لناحية العقاب أو عدمه.
لنصطلح على تسمية نوع الذلّ الذي نتكلّم عليه هنا، «إذلال اللاعقاب». هو الإذلال الذي يتملّكنا لمّا ندرك أن مُمارس الذلّ سينجو بفعلته. هو غياب هذه القوّة التي تواسينا بأنّ غداً لناظره قريب. غياب شبكات الحماية الاجتماعية، أو غياب النظام العدلي، مثلاً، الذي يُفتَرض أن ينتصر للحق وأن يُعاقِب الجلّاد. هنا، تُفقَد قيمة أن تكون على حق، أو أن تكون مظلوماً. تُذَلّ، ثم تشاهد مُمارس الذلّ ينفد، من دون عقاب، فتشعر بنوعٍ جديدٍ من الذلّ.
وإن كانت هذه هي الدرجة الثانية من الإذلال، «إذلال اللاعقاب»، فإنّ في لبنان درجةً ثالثة منها، وهي سياسة تكريم القاتل. لا يكتفي النظام اللبناني بتسهيل الهروب من العقاب، بل يحتفي أيضاً بالمُرتكبين. فتشعر، مرّةً ثالثة، بهذا الإذلال اللعين.
ماذا كان شعوركم مثلاً، لمّا شاهدتم مُدّعى عليه بملفّ انفجار مرفأ بيروت، يرتدي طقمه الرسمي، يضحك، يسلّم على زملائه، ويقترع لرئيس للجمهورية؟
ألم نشعر بنوعٍ من الإذلال لمّا افتتح حسّونة وحسن موسى قهوةً مشتركة على دماء زينب زعيتر، بالعلن، مع تهاني أهل الحَي؟
ماذا كنتم تشعرون كلّما كرّموا طوني صليبا، مدير عام جهاز أمن الدولة، الجهاز المسؤول عن إذلال كُثر، والمسؤول عن جرائم قتل من خارج القانون؟ ولمّا قرّر صليبا، أي مُمارس الإذلال، تكريم مكرّميه؟
كان يمكن أن تُكمِل الحياة بشكلٍ طبيعي لو لم تُفتَتَح هذه القهوة، لو لم يُكرَّم صليبا؛ لكن لا، في هذا التكريم استكمال للإذلال، تكريس له. يمكن أيضاً مراجعة قرار العفو العام بعد الحرب الأهلية في لبنان بهذه العدسة.
ممارسة العنف تجنّباً لقبول الذلّ
للإذلال اقتصاد سياسي. كما لكلّ آليات إدارة علاقات المجتمع. هناك تقاطع لسياسة الإذلال مع دورة الاقتصاد الحالية، تقاطع يجد انعكاسه على المستوى الاجتماعي وفي سلوكيات المُقيمين.
في دورة الاقتصاد الحالية شحٌّ بالموارد. ولنقل أنّ بعض الصراعات تنشب على الموارد تحديداً. وربّما كلّها. فلننظر إلى رجلَين يحتاجان (أو للدقّة، يشتهيان) الموضوع ذاته؛ فإنّ توَفَّر هذا الموضوع، وبكثرة، انقَضت على خير. لكن ماذا يحدث لمّا يدرك الرجلان أنّ القطعة المتبقية هي القطعة الأخيرة؟ إمّا أن تُمارِس عنفاً، إمّا أن يُمارَس عليك العنف، وتخرج من السوبرماركت بلا كيس سكّر. عليك أن ترضى إذاً بالعنف كوسيلة، لتتجنّب أن تُذَلّ. لتتجنّب أن تعود مساءً إلى البيت وتُسأَل: وين كيس السكّر؟ ماذا تقول؟ ضربوني؟ لأ. ستقول ضربتُ من حاول أن يسبقني إليه وها أنا بابا البطل. بابا بطل عبر إذلال بابا آخر. المثل تبسيطي بعض الشيء، لكن قِسْ على ذلك.
تدريجياً نستدخل هذا العنف، تصبح الوسيلة غاية، وتصبح عادة، ممارسة، «طَبعاً». نعتقد أنّنا ندافع عن نفسنا لكننا بالحقيقة نهاجم آخرين. في المقال الأوّل قلت: أنا أُمارس ذُلّاً إذاً أنا سأنجو من الانهيار. والمعادلة الأدق، في سياق هذا المقال، تصبح كالتالي: أنا أقبل أن أكون عنيفاً كي لا أكون مذلولاً. وإذ تقول العبارتان الأمر نفسه، باتّجاهَين مختلفَين، فإنّ كلاهما وهمٌ. معادلتان مغلوطتان. ذلك أنّ السؤال الفعلي هو ما يأتي بعد فهم حتمية العنف، السؤال الفعلي هو التالي: على مَن أُمارس عنفي الذي شكّلته نتيجة الإذلال؟ على مَن أذَلَّني؟ أم على ضحيّةٍ أخرى؟
أعتقد أنّ الجواب واضح في سياقنا اللبناني.
ترويض المُذَلّ ليصير مُذِلّاً
في النقطة المذكورة للتوّ، ينبغي التوقّف عند علاقات القوّة والهيمنة. استثنينا من بحثنا الآن «السلطة»، مُصمّمة الإذلال الأوّل. وصرنا نبحث عن الإذلال المُمارس بين الضحايا أنفسهم، على سبيل الارتقاء بعضهم فوق بعض. للدقّة: وهم الترقّي بين الضحايا. وهمٌ يُنتج «ضحايا جانبيّين»، لكنّ الأهمّ أنّه يدور بين ضحايا، بين مجموعة من المُذَلّين.
المشكلة في هذه المعادلة أنّها تُرَوّض المُذَلّ، ليُمارس بدوره إذلالاً، بالنيابة عن سلطةٍ أعلى. الضحية إذ تستحيل جلّاداً. وتكمن حنكة النظام في جعل هؤلاء يقتصّون من هؤلاء أنفسهم، تحديداً من الأضعف بينهم، من دون تدخّلٍ مباشر ممّن هم في أعلى الهرم. بل كأنّ هذه المعادلة تقدّم لهم صكّ براءة من كل هذا العنف.
صار معلوكاً هذا الحديث لشدّة ما تكرّر.
وقد حكيتُ في المقال الأوّل عن الإذلال المُعَمَّم الذي يُعيد توزيع المجتمع على ما هو أبعد من الطائفة أو الجماعة: تقسيمه بحسب درجة الذلّ التي يتشاركها الأفراد.
يتشكّل إذاً، بفعل الإذلال، نوع من الرصيد لدى الأفراد، به يتحدّد موقعهم الاجتماعي. شيء يشبه توزيع القيمة في سياق العمل: لكلّ فرد رأس ماله الخاص من الإذلال، ورأس المال هذا قابل للتقليل أو للتكثير. يكمن الفارق البسيط أنّه، في هذه الحالة، يُستحسَن تقليل رأس مال الإذلال عوضَ مراكمته. وكلّما قلّلناه، ارتقينا اجتماعياً.
لكنّ المشكلة أنّ رأس مال الإذلال هذا، إذ قلّلناه من مكانٍ ما، فإنّنا نعيد إنتاجه في مكان آخر. يصبح الصراع إذاً على هذه القيمة الفائضة من الإذلال التي تتنقّل بين الأرصدة المختلفة: أين سترسو في نهاية المطاف؟ ويُريد لها الجميع أن ترسوَ بعيداً عنه.
من الممكن، كما ذكرنا في المقال الأوّل، الكشف عن جوانب أخرى للذلّ/ الإذلال. وهي لا متناهية بالفعل في سياقنا اللبناني. لكن عند هذا الحدّ، يصعب التصديق أنّ الذلّ مجرّد أثر جانبي للانهيار. يصعب التصديق أنّ الإذلال عارض ويمضي. بل يصعب التصديق أنّنا ما زلنا نفس الكائنات التي كانت منذ أعوام قليلة. أو أنّنا، بعد أعوام قليلة، سنكون الكائنات نفسها.