عندما انفجرت القنبلة – وهي ليست قنبلةً إلّا مَجازاً – شعرْتُ بها تموّجاتٍ عنيفة انبثقت من الهواء الذي أمامي. والتموّجات هذه كانت كأنّها هي الواقع منبجساً من الوهم الذي كان يُغلِّفني وكنتُ أحيا فيه بشيء من الطمأنينة القَلِقَة. ارتجَفَتْ الدنيا أمامي، ولجزء من الثانية بدا وقتاً جامداً سميكاً أكاد أستطيع لمسه، لمحتُ شيئاً وراء الوهم الذي كان يُغلِّفُني: لمحتُ الرعب الصافي. ذاك الرعب الذي تَسمع عنه وتقرأ عنه ويُخيَّل إليكَ أنّكَ ربّما عشته يوماً، لكن الحقيقة هي أنّك لم تعرفه إلّا في هذه اللحظة.
في هذه اللحظة تَلْمُسه بيدكَ وتشعر به تموّجاتٍ تخترق بدنَك الذي تَحُسُّ أنه أصبح هلامياً: لحمٌ متموّجٌ معلَّقٌ بعظم. ثم تضربُكَ صدمةٌ هوائيّة صوتيّة لا شك في أنها غضبُ الله، فتشعر أن اللحم سيقع عن العظم. ثم عُدْتُ إلى نفسي راجياً أن يكون ما يحصل قصفاً إسرائيليّاً أو عبوةً انفجرت وليس زلزالاً: ليس زلزالاً لأنني لا أدري ما ينبغي فعله في حال حصول زلزال. أما العبوة الناسفة أو إسرائيل، فقد تشرَّبتُ التعاملَ معهما منذ صغري.
حدث ذلك ويحدث وسيحدث: هذا قدرنا. كنت على الشرفة أدخِّن، فركضت إلى غرفة النوم حيث زوجتي فيما روحي تقول لي إنها ماتت. لم تمت زوجتي التي لو ماتت لكنتُ اتّجهتُ توّاً إلى المطبخ فأمسكت بتلك السكين ذات المقبض الأخضر البلاستيك ونَحَرْتُ عنقي – وهذه مُبالغة ميلودراميّة لكن فيها الكثير من الحقيقة. أعتقد أن مِن تحت الرعب طلعت سعادةٌ لا توصف بأنني حيٌّ ولينا – زوجتي التي أعْشَقُ- حيّةٌ (كم أحسست بحبي لكِ في تلك الحظة، مِن الرعب يا لينا طلع حبّي لك وشعرتُ بالنشوة، نشوة أننا أحياء يا لينا).
«شو في؟»، سألتِني يا لينا.
«إنفجار»، قلتُ لكِ، «في كذا انفجار».
واستمرّت الدنيا تتخضخض. وأردتُ أن أحميكِ يا لينا، ولم أستطِع غير إمساك ذراعَيْكِ فيما فعلتِ مثلي وأمسكتِ ذراعَيّ. كنّا ننتظر الموت معاً، وفي ذلك شيءٌ من الكليشيه، وليكن. لو متنا معاً في تلك اللحظة، فلا بأس يا لينا، فأن تكوني في حياتي هو ما لا يتحقَّق لأحد، كانت لتكون ميتةً جميلة.
لا أستطيع فهم ما حصل لنا إلّا إذا نجحتُ في خلق مجاز. إهمال، فساد، سمسرة، حزب الله مخزِّناً كل هذه الكمية من نيترات الأمونيوم لاستعمالاتٍ إرهابيّة لاحقة فقَصَفَت إسرائيل العنبرَ أم لم يقصفه أحدٌ فاشتعل لسبب تافه مثل تلحيم باب معدني. عليّ أن أجد مجازاً لما حصل لي أنا فحسب، ولما حصل لبلدي الذي لطالما تكبَّرتُ عليه مردِّداً أنني لا أشعر بشيءٍ تجاهه. مجازِيّ هو حبّي لروحك يا لينا، وحبّي لك يا لبنان. فما خلا سنة واحدة عِشْتُها في تولوز، فإن منزلي كان دوماً لبنان. لقد أشفقتُ عليكَ يا لبنان. وعلمت أنني أحبك كثيراً. ما المجاز الذي قد يخوّلني فهمَ شيءٍ ممّا حلّ بكَ ولا ريب سيحلّ بكَ مجدّداً في المستقبل؟
ها هو المجاز:
حسن نصر الله (لكَ الصدارة يا سيّدنا) مُبيد السوريّين الذي بنى مقاومته كي يحكمنا بحربه مع إسرائيل.
ميشال عون الذي لا يرفّ له جفن عندما يُقتَل المئات والآلاف أو يقتلهم هو في سبيل أخذ قيلولة على كرسيّ القصر.
نبيه برّي السارق السفيه النتن الذي اتّخذَ اللهُ مُحَيَّاه نموذجاً لصنع وجه الشيطان. وليد جنبلاط الجزّار الودود والمنفتح والمثقّف الذي لا يعنيه في السياسة سوى بقاء طائفته الدرزيّة متقوقعةً على نفسها كي يستطيع إحكام القبضة عليها.
سمير جعجع السفّاح الذي أخبرنا أنّه فتح خطَّ تواصلٍ مباشراً مع الله وهو في زنزانته.
سعد الحريري الولد المدلّل النزق الأرعن والمُتَمَسْكن الذي لا يكفّ عن استغلال جثة أبيه.
وأنتِ أيتها الجثة، يا جثة رفيق الحريري، أنتَ يا رفيق الذي أتوا بكَ إلى لبنان قبل أن يقتلوك لتبني بلداً يكون شركَتَكَ الخاصة تبيع منها ما تشاء فيما توزِّع على كلاب الأسد حصصها.
أنتم المجاز، أنتم القنبلة التي انفجرت منذ بضعة أيام مع أنها كانت قد انفجرت قبل ولادتي، منذ أن كان والدي مراهقاً فانخرط في الحرب.
أنتم المجاز الذي لم نخترع مجازاً يضاهيه بعدُ، ولعلّ محاولة اختراعنا له تبدأ بتخريب قبر رفيق الحريري وشتم نصر الله علناً في طرقات لبنان كلّها، وخصوصاً في شوارع هذا السجن الذي بنيتَه يا سيّد حول جسدك الطاهر، السجن الذي سوَّرت أهلَكَ في داخله واسمه ضاحية بيروت الجنوبية.
الانفجار الذي حصل مجازيٌّ بامتياز لأنه يُشير إليكم واحداً واحداً. لا أمل لنا في الحياة إلّا إذا قتلناكم. وأستبعِدُ نجاحنا في ذلك.