عندما تمكّن الصحافي منتظر الزیدي من الرئیس جورج بوش بحذائه، استطاع الزیدي بضربة واحدة أن یمّرر للشعب العراقي جرعةً إضافیة من مقاومة الاحتلال الأمیركي. جرعة راسخة بفعلها الجريء ومضمونها الواضح بأنه لو أردت قتل عدّوك، علیك بهذا الحذاء على رأسه مباشرةً. علیك فقط أن تهینه وتحرجه.
بعد تلك الحادثة واشتعال الشارع العربي، وبعد حراكات متفرّقة في لبنان حتى 17 تشرین يومَ استعرضت الهیلاهو مجدها، علمنا أن لهذه الانتفاضة زاویة مشرقة مختلفة، زاوية من الشتائم التي تلعن هیبة النظام وتعرّیه من إتیكیت التواصل التي فرضها عند حواجزه ودوریاته العسكریة المدعومة بسلاحها والمجهّزة بافتراءات تهيّئك للسجن أحیاناً.
في القصر الجمهوري الذي لطالما كان عنبر تحریر الصفقات الفاسدة، احتمى میشال عون من الحذاء الذي سوف یصوَّب نحو رأسه. لكنّ تلك الرغبة في الاكتفاء بإهانة الرئیس تعني قتله حتماً. تعني انتصار الحذاء على السیف. تعني انتصار الهیلاهو.
لنبدأ من سقوط میشال عون المدوّي في القمّة العربیة الثامنة والعشرین في الأردن. من هنا، ومن هذا السقوط، عزمنا على الانتقام من رجل یكبر جدّي بسنین. ولكن لسقوط جدّي مشهدٌ آخر: صورة الشاب على أنقاض منزله إثر غارة إسرائیلیة، وصورة الأب الذي باع عفش منزله مقابل مقعد مریح لولده عند أول طائرة مغادرة تحجبه عن أعیُن حزب الله في إقلیم التفاح- الجنوب العام 1988 خلال ما عُرف بـ«حرب الإخوة».
هوى الجنرال أرضاً وهوینا معه بدموعنا. هوى أرضاً، فهوى معه حسین العطّار وعلاء أبو فخر بدمائهم. سقط «غاوي الشاي» على جسد علي الهق المنتحر في الحمرا، وهل تصدّقون الجنرال یوماً لو أعلن بلسانه المرتجف بأنه «مش كافر» كما فعلها علي؟
ولید، الطفل من طرابلس، مات هو الآخر من كُفر هذا العهد. «یا ولید»، كما نادتك والدتك، لعلّك تعلم الآن أنّ هذا الجنرال عندما هوى أرضاً فأفرطَنا من الضحك، هوى معه موتُنا جمیعاً، وهوتْ معه روحك المیتّمة من الأمّ المفجوعة بولدها الفقیر. لو تعلم یا ولید أنكم السابقون ونحن اللاحقون في مدینة يأخذها أغنیاؤها من حماة السلطة كیفما شاؤوا، لیبخلوا على آخرین مثلك أمرضهم وأذلّهم عجزهم المادي.
للجنرال بعد منیّته حیاة سوف نحياها بدموعنا من شدّة الضحك. عون یهرّج كل حین ویفشل كل حین، رديء بمونتاجه وسیّد بعمالته وتطبیعه مع الجریمة. من حرّضك یا علي على الانتحار؟ «كان یعلم» بنیترات الأمونیوم، ونحن نعلم أنّ الذي أطلق الرصاصتَیْن على عبد عباس هو هذا النظام الكافر.
ضحكنا مراراً على لحظة مسجّلة لم تكن مركّبة من ذاك المؤتمر، لم تكن افتراءً حتى یعبث بها أحد الثوّار لتسلیتنا، بل كانت لحظةً جاهزة متمِّمة لخطوة مربكة لجنرال هام بأحلامه فانطلق مخاطباً نفسه ولا أحد سوى «اللهمّ نفسي». كان لذلك السقوط یدٌ حماسیّة تحاول إنقاذ ما تبقّى من وهرة هذا النرجسيّ. وفي الجهة المقابلة، هناك مَن انتظر مادّةً لیتشاركها معنا، تشفي بریقاً من الألم سبّبه لنا مَن «كان يعلم» عندما أفرغ ضعفه قائلا «اللي مش عاجبه یهاجر».
في البحر، بعیداً من مصیفنا ولهْوِنا، مَن مات غرقاً لجأ هو أیضاً قبل هجرته الأبدیة إلى الاعتكاف في هذا البلد البائس المدجّج ببلطجیّته ورصاصه المتفلّت عند أسطح قنّاصیه. مَن داس الناس بملالاته العسكریة في البداوي حفاظاً على أمنٍ ليس بأمن، تساوى في القمع البعثيّ وتلامذة رستم غزالي. مع كل نفس انتفخت رئتاها بالغرق، نتذكّر أنّ تلك الغربة حتّموها علینا، حتى أنهم علموا بانتحارنا الجماعي وسط صمت الموج وسماسرة البواخر الركیكة. فما كان من عهد میشال عون إلا أن طالنا مجدّداً في عمق بحرنا، فاستیقظنا على صورة تلك العائلة ترتّب فاجعتها بأناقة المستسلم للشمس عند شاطئ أرضها. وكأنّ بتلك العائلة في غفوتها وجسدها البارد تعید تنشیط ذاكرتنا المشوّهة بالمجازر التي ارتكبوها، بأعین ثوارنا وبطش أجهزة هذا النظام القاتل.
عندما انهار سقف مبنى قدیم على قاطنیه في حي الأندلس في مدینة طرابلس، كان قد انهار قبله الرئیس «اللي مش عاجبه یهاجر». وإذ بالرئیس یدعو الشاب عبد الرحمن الكاخیة وشقیقته راما إلى شراء بطاقة سفر تجنّبهما الموت قبل صلاة الفجر. عند الفجر، حین كان سیّد العهد غائباً عن إصلاحاته، تمّ انتشال عبد وراما وقد فارقا الحیاة من دون صلاة أخیرة لغدٍ لدیه سقف ماكن. «كان یعلم» أنّه، وإن كان لا بدّ مِن الهرب مِن سقف منزل مهدّد بالسقوط، فلا سبیل من النجاة في بلد یرمینا بدمائنا في حفرة موحشة بلا غسل ولا كفن.