الانتفاضة هي التي أَتَتْ بحكومة حسّان دياب. صحيحٌ أنّ أغلبَ مَن نادوا بحكومة خبراء مستقلِّين تبرّأُوا توّاً مِن المسخ التكنوقراطي الذي وُلِد مِن مطلبهم- فكانوا كمثل مَن يرى انعكاسَه مُشوَّهاً في المرآة فيأبى التعرُّف عليه؛ غير أنّ المخلوقَ ذاك صنيعتُهم أكثر ممّا هو صنيعة القوى المُمْسِكة بالسلطة السياسيّة.
في جوهرها، كانت المطالبة بحكومة خبراء مستقلّين (تُناط بهم مهمّةُ إجراء انتخاباتٍ نيابيّة مُبكرة بغية تغيير السلطة السياسيّة جذريّاً، إلخ) مُحاوَلةً لتحقيق رغبة جزءٍ من الشعب اللبنانيّ في الإطاحة بأحزاب السلطة برمّتها، أيّ في تدميرها.
لكنّ مُطالبةً كهذه يشوبها تناقضٌ داخليٌّ كفيلٌ بتعطيل فعاليَّتِها تماماً، وهو أنّها توكِل تحقيق الرغبة في التدمير للطرف المُراد تدميره. أريد قتلكَ، فاُقْتُلْ نفسَك: هذا هو المنطق الضمنيّ الذي يَحْكم تلك المطالبة، منطقٌ ينمّ عن تفكيرٍ سحريٍّ يَنْسُب إلى الرغبة في حصول شيءٍ ما القدرةَ على تحقيق حصوله في عالم الواقع، وذلك مِن دون الإقدام على أيّ فِعْلٍ خارج حيِّز الأفكار والرغبات.
تَلقَّفَت بعض أحزاب السلطة هذا المطلب وجرَّدَتْه من محتواه وأبْقَتْ على شكله فحسب، فوُلِدَت حكومةُ حسّان دياب. وهنا، قد يقول قائلٌ مُمْتَعِضاً: هذه حكومةٌ لا تُحقِّق أيّاً مِن تطلّعات المُنتفضين، أضِف أنّ مَن انتقى معظم أعضائها هي قوى 8 آذار، فما علاقة الانتفاضة، إذاً، بهذا المسخ التكنوقراطي؟
لقد تَوَهَّمت الانتفاضة أنّ القوى الحاكمة يمكن أن تستجيب لجوهر مطلبها (أي الإطاحة بالسلطة السياسيّة واستبدالها بأخرى)، ولم تعِ، تالياً، أنّ هذه القوى لن تستجيب سوى لشكل المَطلَب مُدَّعيةً أنّها استجابت لجوهره. إنّ هذا الادّعاءَ الكاذب، مُلتَحِفاً بالاستجابة لشكل المطلب، هو ما أكسبَ الحكومةَ الجديدة بعضاً من الشرعية في نظر جزءٍ من اللبنانيّين. هكذا تكون الانتفاضةُ، مِن غير درايةٍ، قد مَنَحت السلطةَ السياسيّة فرصةً لترميم شيءٍ مِن الشرعيّة التي كانت خسرتها في الشارع.
والوهمُ بأنّ القوى السياسيّة ستستجيب لجوهر المطلب مصدرُه وَهْمٌ آخَر أعمقُ منه، يتعلَّق بصورة الانتفاضة عن نفسها:
لقد خُيِّل إلى كثيرٍ من المنتفضين أنّه باتت لهم هويّةٌ جمعيّةٌ جديدةٌ، وواضحةُ المعالمِ، دمجتْهم في جسمٍ واحدٍ، فيما كانت تلك الهويّة مجرّد انصهارٍ صوفيٍّ مُؤَقَّت تسبَّبت به النشوةُ العارمةُ التي تملَّكت المُتظاهرين خلال أوّل أيّام الانتفاضة.
لقد خُيِّل إليهم أنّهم أضحوا قوّةً سياسيّة مُوَحَّدةً تُدرِك مصالحها الاقتصاديّة والاجتماعية، فيما اقتصرَ تعريفُ هذه المصالح المُفتَرَضة على إزاحة الأحزاب المُمسِكة بزمام السلطة.
لقد خُيِّل إليهم أنّ شعارَ «كلّن يعني كلّن» هو أكثرُ مِن شعارٍ، أي أنّه رؤيةٌ سياسيّةٌ واجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ مُتكاملة، فيما هو لا يُحدِّد البتّة إنْ كان أولئك الذين تنبغي الإطاحةُ بهم جميعاً مجرّد حفنة من الزُعماء والسّاسة، أم طبقة اجتماعيّة برمّتها.
لقد خُيِّل إليهم أنّهم يخوضون ثورةً، أي أنّهم صاروا في موقعٍ هجوميّ يُتيح لهم فرض شروطهم على العدوّ، فيما هم، في الحقيقة، منخرطون في انتفاضة، أي أنّهم، كما كتب وسام سعادة، لا يزالون في موقعٍ دفاعيّ، ذلك أنّهم يُحاولون صدّ هجمةٍ اقتصاديةٍ شرسةٍ تسعى لتدفيعهم تكلفة الانهيار.
مِن صورةِ الانتفاضةِ المَوْهومةِ عن نفسها انبثق توهُّمُها بأنّها دَنَتْ مِن الاستيلاء على السلطة، فكان ذلك المطلب العبثيّ الذي يقتضي انتحارَ أهل الحُكم. ومع سقوط هذا المطلب بفعل مجيء المسخ التكنوقراطي، انتقل فوراً كثيرٌ مِن المنتفضين إلى مطلب ثانٍ ليس سوى استكمالٍ للأوّل: إجراء انتخاباتٍ نيابيّةٍ مُبكرة، أيّ، مرّةً أخرى، مُطالبةُ السلطة بالسعي إلى تدمير نفسها.
ليس إجراء انتخاباتٍ نيابيّة مُبكرة بالأمر الوارد حاليّاً؛ لكنّ أغلب الظنّ أنّ حصولَ ذلك سيُتيح للنظام ترميمَ شرعيَّتِه مرّةً ثانية. خلف هذه المُطالبة بانتخابات مُبكرة، ثمّة شيءٌ يُشبه التفكير السحري: نوعٌ مِن إيمانٍ لاعقلانيّ بأنّ الديموقراطية ليست مساراً طويلاً، وإنّما قوّةٌ خارقةٌ تكفي مُناجاتُها لكيّ تتحقّق المعجزات.