منذ ١٧ تشرين الأوّل، لم تتوقّف وجوه السلطة، إعلامًا وسياسة، عن التحذير. قفزت الخطابات وملفات الصحافة والإعلام فورًا من التحذير من «الفنتة» (وهو شيء اعتادوا التحذير منه عند كل مفترق سياسي)، إلى التلويح بخطر «عودة الحرب الأهلية». لم تعد الفتنة كافية، وهو اعتراف ضمني بحجم الاعتراض الحالي وجديَّته.
بالنسبة إلى وجوه السلطة، فإنّ تخلخل نظام العلاقات بينها وبين مناصريها هو الحرب الأهلية. وهي تحديدًا حربٌ أهليّةٌ عليهم. ليس هذا لغواً وتلاعبًا بالكلام. ففي أذهان هؤلاء، الحرب الأهلية هي كل ما يهدّد مواقعهم، وينبغي الدفاع عن الهيكل التحاصصي الذي أُرسي مع النهاية الرسمية للحرب اللبنانية كي لا «تعود» الحرب الأهلية. هكذا تصير الحرب مجرّد استعادة وانزلاق يسهل التلويح بهما عند أيّ ملمح خارج المعهود.
في نظام «السلم الأهلي»، اختصرت الحرب بملامح ثابتة. وهذا أبسط ما يمكن أن يتفتّق عنه خيال السلطة: ملمح الحجز والتنقّل الذي بدأ ببوسطة. ومع هذا الخيال المحدود، والمقصود، يرسى خطاب بأكمله، إعلامًا وسياسة: «لا تقطعوا الطرقات! لا تفعلوا هذا! لا تفعلوا ذاك! احترسوا، فالحرب عائدة».
ليست هذه المرة الأولى التي يُلوَّح بها بالحرب الأهلية. ففي ذهن السلطة، إنّها هي التي تحول دون عودة الحرب. نحن أمام لغة تتشكّل بحسب ما تتطلّبه المرحلة لحماية هيكل الجمهورية الثانية «الثابت» الذي تجري داخله أشياء كثيرة بالمفرق. ولا يمكن لمواجهة هذه اللغة إلا قلبها وتسخيفها عبر إظهار تهافت المنطق فيها. فالتلويح بالحرب الأهلية هو الذي حال دون تطبيق الدستور.
والتلويح بالحرب الأهلية هو الذي يصير تحذيرًا من الفراغ فجأة، بعدما كان الفراغ في زمن قريب فترة للتشاور والحوار والتوافق وغسل القلوب.
والتلويح بالحرب الأهلية هو الذي يحتّم التغاضي عن حوادث القتل في الشوارع، وصرفها في عدد الوزارات أو في توظيف إداري.
والتهديد بعودة الحرب الأهلية هو الذي يحدِّد محاسبةً سطحيةً أو انعداماً كاملاً للمحاسبة لأنّ المحاسبة تنتهي استهدافًا لجماعةٍ بأكملها.
والتهديد بالحرب الأهلية هو الذي يمنعك أن تشتري بيتًا هنا أو هناك، لأنك عندما تشتري لا تشتري لنفسك، بل تمثِّل «جماعتك». والتهديد بالحرب الأهلية هو الذي أمات مخطوفي ومعتقلي الحرب، وأشاح بنظره عن المقابر الجماعية ونفى وجودها.
والتهديد بالحرب الأهلية هو قَنْوَنَة النهب المكشوف.
وقد يصل الأمر بالتهديد بالحرب الأهلية أن يستبيح شوارع المدينة والمناطق بالميليشيات ذات يوم لبرهنة «مجيدة» عمّا يجب منعه (!) بالتوافق حول ميزان قوى ومحاصصة وزارية ورئاسية وانتخابية.
يحذّر خطاب التهديد بالحرب الأهلية من عودة نظام الحجز. يفوت هذا الخطاب أنّ شعور الحجز عامٌّ ومسيطِر، وهو سمة مشتركة في كلام الناس في الأيام الماضية. وعليه، لا يعود منطق الحجز كتوصيف للحرب، في ثباتها، صالحًا. فالخارجون في الشوارع يخرجون من هذا الحجز عبر الفكاك من نظام الإيهام بمنع عودة الحرب الأهلية هذا، ليصير نظام السلم الأهلي للمفارقة، هو نظام الحرب الأهلية، الذي يهدّدنا لا بعودتها، بل بانزلاقه. هذا ما يعيه هذا الخروج الكبير بهتافٍ كاشِف: شعبية شعبية، إنتو الحرب الأهلية.