طرفٌ واحدٌ
جاء موقف الرأي العام الغربي، أو على الأقلّ صنّاع هذا الرأي العام، صادماً.
لم تكن الصدمة نتيجة انحياز صنّاع هذا الرأي لموقف ماكينة القتل الإسرائيلية، وهذا ما اعتدنا عليه، بل نتيجة وحشية هذا الانحياز وفداحة البنية العنصرية التي تحرّكه. ولّت أيام الدعم لإسرائيل المتلطّي وراء أدبيّات الخطاب الدبلوماسي، وحلّت محلّه مرحلة العنصرية المفضوحة والمتوحشة الغربية.
لم ينحَز قادة الدول الغربية لإسرائيل. فالانحياز يفترض طرفين، وهم أعلنوا أنّ لا وجود إلّا لطرف واحد، وباتوا يبرّرون حقّه بالانتقام من «مدنيين»، أسقطت عنهم صفتهم «المدنية»، ومن «حيوانات بشرية» لا تنتمي لـ«العالم الحضاري». تبنّت أكثرية الطبقات السياسية الغربية الخطاب الإسرائيلي عن «شرّ مطلق» يتطلب عنفًا غير مسبوق لتدميره، وأعطت ضوءاً أخضر لم تعكر صفاءه المجازر المتكرّرة.
حيوانات، شرّ مطلق، فاقدو الصفة الإنسانية، برابرة… خرجت (أو عادت) كل ترسانة العنصرية الغربية إلى السطح لتعلن، من دون أي خجل، أن العالم مقسوم إلى إثنين: من يستحقّ الحياة ومن لا يستحقّ حتى الرثاء.
«الغرب»
للمرّة الأولى، على الأقلّ منذ أحداث أيلول 2001، ظهر «الغرب»، أي هذا المركب السياسي والإعلامي والعسكري، في هذا المنظر الموحّد، رغم بعض الأصوات المعترضة.
في وجه «البرابرة»، توحّدت القوى السياسية حول قِيَمها المهدّدة. وجاء موقف السياسيين محمولًا من حملة إعلامية غير مسبوقة لترويج الرواية الإسرائيلية، حتى على حساب التاريخ المهني لبعض المؤسسات الإعلامية. فذهب الإعلام أبعد من الجيش الإسرائيلي في تعميم كذبة «الأطفال المذبوحين»، كما تحوّل إلى محكمة لأي ضيف عربي. وتزامن هذا الموقف مع حملة إسكات وطرد لصحافيين دعموا فلسطين، ليكون مصير مَن يخرج عن هذا الإجماع العنصري إمّا القتل أو الطرد.
لم يكن مجرّد انحياز كلامي، بل واكبته حملة من القمع البوليسي، غير مسبوقة في الدول الغربية. فتمّ منع وقمع تظاهرات سلمية في مدن غربية، وملاحقة من يرفع العلم الفلسطيني أو الكوفية. تزامن العنف مع أكبر عملية «تبليغ علني»، ربّما منذ زمن المكارثية، حيث بات هناك منصّات تنشر أسماء من يدعم فلسطين أو باصات تعرض صور تلاميذ وقّعت بيانًا مندّدًا بالجرائم الإسرائيلية، كما حصل في جامعة هارفارد. من جهتها، تحاول شبكات التواصل الاجتماعي تقليص التعبير الداعم لفلسطين، أو «تخطئ» في ترجمة فلسطيني إلى «إرهابي» بالإنجليزية، بينما المهرجانات الثقافية تعاقب العرب بإسم محاربة الإرهاب.
النتيجة المباشرة لهذا المناخ من الكراهية قتل رجل أميركيّ لطفلٍ من أصول فلسطينية عمره ستّ سنوات.
عودة المكبوت العنصريّ
افتتح موسم اصطياد العرب في الغرب.
أو بكلام أدّق، افتتح الموسم مجدّداً. فهذه العنصرية ليست جديدة، وعودتها، كعودة أي مكبوت، غالباً ما تكون عنفية. ففي هذا القرف الذي طاف من كل سياسي غربي أو مؤسسة إعلامية أو تعليق على خبر، طعمة معروفة، وكأنّ الكلام تكرار لتاريخ طويل من العنصرية.
ليس علينا العودة بعيدًا في التاريخ، فقط بضع سنوات إلى الوراء.
عدنا الى أسوأ أيام «الحرب على الإرهاب» وخطاباتها، والتي كانت تحديثًا لخطاب استعماري. من جهة، حيوانات، برابرة، إرهابيين يختبئون وراء مدنيين متواطئين، شرّ مطلق لا يريد إلّا القتل، داعش، القاعدة، نازيون… أما في الجهة المقابلة، فهناك قيَم الديموقراطية والسلام، الرقص والفرح، جيوش أخلاقية تحاول جهدها تفادي المدنيين وهي تقتل الآلاف منهم، أطفال الخير.
عدنا الى أسوأ أيام «الحرب على الإرهاب» ومطالبتها بموقف صارم وحاسم على حساب أي تفكير بالسياق أو التاريخ. فالتاريخ يبدأ بـ7 تشرين، كما بدأ من قبله في 11 أيلول، وأي محاولة للعودة قبل هذا التاريخ هي خيانة وتبرير للقتل. تبلكمَ أبرز فلاسفة الغرب دفاعًا عن مجرّد حقّهم بالنظر إلى السياق، هذا قبل أن يصطفوا وراء «حق إسرائيل» بالرد. التاريخ يبدأ بـ7 تشرين، ومن هذا المنظور ما من سياق لعملية حماس، وما من تاريخ للاحتلال، وما من جرائم استيطان، حتى ما مِن انزلاق فاشيّ للحكومة الإسرائيلية الحالية.
عدنا إلى أسوأ أيام «الحرب على الإرهاب»، ومعها إلى حاجة هذا الغرب لـ«عدوّ» يختصر الشرّ كله، لكي يستطيع تصوير نفسه كالخير المطلق. كل «النقد-الذاتي» الذي لحق بكوارث هذه الحروب تبيّن أنّه لم يكن إلّا نفاقًا. فبدا واضحًا أن النخب الغربية لم تكن تمانع هذا الخطاب وعنصريته، بل جاء امتعاضُها من كونها خسرت تلك الحرب.
ندرك كيف ستجري الأمور، لأنّنا عشناها من قبل. بعد بضع سنوات، سوف يخرج «شجاع» من بينهم ليقول إنّه لم يكن هناك مبرّر لهذا القتل، وتمّت فبركة الحقائق وربّما أخطأنا بحماستنا. ستفرح به النخب الغربية كونه يمثّل دليلاً عن أخلاقيّتها وقدرتها الاستثنائية على نقد ذاتها. وستنهال الجوائز على هذا «الشجاع»، كما تنهال القذائف على أهل غزة، الفاقدين لقدرة النقد الذاتي.
لكنّ هذا كلّه للمستقبل. أمّا اليوم، فوقتُ المواقف الصارمة والقتل.
نهاية نظريّة الانحياز
على مدار تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، حاول البعض فهم هذا الانحياز الذي ظهر وكأنّه يعاكس مصلحة الدول الغربية نفسها. فبقيت هذه العلاقة وكأنّها خروج عن قواعد العلاقات الدولية، خروج يتطلب تفسيرًا، غالبًا ما تحوّل إلى ما يشبه التفسير مؤامراتي.
هناك مصلحة تؤدّيها إسرائيل لهذا الغرب الاستعماري، مصلحة تفوق «ثمن» الانحياز ولم تزعزعها العلاقة مع الأنظمة العربية الأخرى، خاصة بعدما باتت تلك الأنظمة مرتبطة بإسرائيل من خلال شبكة من اتفاقيات التطبيع والتبادلات الأمنية والإستخباراتية. إسرائيل لم تعد حاجةً للغرب في وجه العرب، بات أمنها اليوم جزءاً من «الشرق الأوسط الجديد» العربي-الإسرائيلي.
لكنّ المصلحة ليست كافية لتفسير الانحياز، ما دفع البعض للبحث في التاريخ، وخاصة الذنب الغربي حيال المحرقة اليهودية، و«تسليح» معاداة السامية كالشرّ المطلق الذي يفرض على الغرب دعم إسرائيل. فالغرب، حسب هذا التفسير، قايض ذنبه بفلسطين، ما يفسّر موقفه الذي قد يبدو في بعض الأحيان غير عقلاني أو حتى مناقضاً لمصالحه.
وجاء تفسير آخر ليؤكّد هذا المنحى، وهو التفسير القائم على نظرية «اللوبي الإسرائيلي»، خاصّةً بعد نشر كتاب ﺟﻮن ﻣﻴﺮﺷﺎﻳﻤﺮ وﺳﺘﻴﻔﻦ واﻟﺖ، ليحاول تفسير هذا الميل «غير العقلاني» تجاه إسرائيل، من خلال النظر إلى سيطرة هذا اللوبي على القرار الأميركي.
لكنّ هذه التفسيرات تغفل جانبًا مهمًا من هذا الانحياز، وهو طابع التماهي بين هذا «الغرب» وإسرائيل. فالنقطة الفاصلة في حفلة الجنون الإعلامي والسياسي التي نمرّ فيها اليوم، هي في هذا التماهي الذي ظهر بالقدرة غير المسبوقة للتعاطف مع بعض الضحايا على حساب ضحايا آخرين.
قتلُ أكثر من ألف طفل فلسطيني لا يساوي قتل أعداد أقل بكثير من الجانب الآخر.
سجنُ أكثر من مليوني فلسطيني في غزة لعقود لا يقارن بالهجوم على حفلة موسيقية.
بات للضحايا الإسرائيليين في الإعلام الغربي إسم وصورة وقصة، أمّا الضحايا الفلسطينيون، فهم في أحسن الأحوال رقم، محاط بتهم البربرية والحيوانية والإرهاب.
هذا ليس نتيجة انحياز سياسي لدولة إسرائيل، هذا لا يفسَّر إلّا كتماهٍ «غربي» مع إسرائيل. فعلى مرّ عقود، تم الافتراض أنّ «الغرب» في موقع «الحكم»، وإن كان قاضياً غير عادل نرجوه مع صور شهدائنا ريثما يعدل بحكمه بعض الشيء. اليوم، أسقط «الغرب» عن نفسه هذه الصفة، ليعلن أن دعم إسرائيل بات حاجة له، أن لا ثمن للدفاع عن إسرائيل لكونه يدافع عن نفسه لا عنها وحسب.
التماهي في الدم
التماهي «الأخلاقي» بين الغرب وإسرائيل هو نتيجة تماهي ماكينتين سياسيتين وعسكريتين شبيهتين تقومان على مركزية الدولة وخطابها الدبلوماسي وتساؤلاتها الأخلاقية. فنظريات «الحرب العادلة» ومسألة تفرفة المدنيين عن العسكريين وسؤال الأضرار الجانبية للعمليات العسكرية وكيفية تعايش جانب الدولة «الحضاري» مع طابعها «العنيف»، هي أسئلة مشتركة بين هاتين الماكينتين. هي منطق «المنتصر» المتلطّي وراء خطاب أخلاقي، منتصر ما زال يحاول طمس عنفه الأوليّ بخطابه الحضاري. لما يسمع السياسيون والإعلاميون الغربيون ترّهات المسؤولين الإسرائيليين، هم يسمعون أنفسهم ويرون ذاتهم، ويتفهمون إلى حدّ التماهي صعوبة أن تكون «محتلاً أخلاقياً» وليس كالبرابرة الذين عليك أن تقتلهم «أخلاقيًا».
لكنّ الشبه لا يكمن فقط في طابع تلك الماكينتين المنتصرتين، بل هو نابع أيضًا من تشابه «آخرها». فقد استثمرت الماكينة الغربية بالحرب على غزّة لأنّها تحارب من خلالها تحوّلاتها الداخلية، والتي لم يتسنّ لها من قبل معاداتها بهذا الوضوح. فهذا الغضب الغربي تجاه ما حصل هو نتيجة أيضًا لاستياءٍ حيال صعود الجاليات العربية والإسلامية في الغرب، والتي بات لها وزن اقتصادي وثقافي وإعلامي، كما ظهر مثلًا في حملة الدفاع عن حيّ الشيخ جرّاح. انصدمت الماكينة الغربية من هذا الاختراق لإجماعها الخطابي، لكنّها كانت ما زالت محاصرة بتداعيات «حربها على الإرهاب». فاضطرت أن تشاهد هذا الصعود العربي مكتوفة الأيدي، حتّى جاء هجوم حماس الأخير ليطلق مكبوتها. الماكينة الغربية ليست منحازة لإسرائيل، بل متماهية معها. هي ترى في حرب إسرائيل انعكاسًا لحروبها، في مأزقها «الأمني-الأخلاقي» صدى لخطابات هذا الغرب عن ذاته، في محاولتها البائسة لتطبيع ماضيها الاستلابي تاريخًا مشتركًا.