هل من الأخلاقي كتابة مقال «وجيه» عن مجزرة فيما هي جارية؟ سؤال أطرحه باستمرار على نفسي.
أليس هذا شكلاً من أشكال استغلال الموتى لإنتاج أدبيات من الجثث المتحلّلة؟ يتبادر إلى ذهني ربط ليفي ستروس بين المخادع و«أكلة الجِيَف».
أقول لنفسي: على أي حال، سواء كان هذا أخلاقياً أم لا، هناك، من الناحية العملية، سؤال أكثر إلحاحاً. هل من الممكن الكتابة (بالمطلق) فيما المجزرة جارية؟ لا شكّ في أنّني أجد صعوبةً في القيام بذلك.
سألتني جولي بيلو (من أليغرا) وسألني فادي بردويل (من ميغافون) في الوقت نفسه تقريباً إن كان بإمكاني كتابة مقال عن غزّة. ارتابني شعور بالحزن حيال ما يحدث ولكن أيضاً شعور بعدم الجدوى والنفع إذ إنني لم أكن قادراً على دفع نفسي إلى الكتابة. وكانت بعض الأفكار نفسها التي عانيت منها عندما كتبت «مطاردة شبح الأكاديمي غير النافع: تفكير نقدي في زمن الكورونا» تحجب أفقي الكتابيّ. المجلة الأوروبية للدراسات الثقافية، المجلّد 23، العدد 4.و«زمن المجزرة» ميّالٌ حتّى أكثر من «زمن الكورونا» إلى إشعار مفكّر بأنّه آخر مَن هناك حاجة إليه. فمن يرغب بالاصغاء إلى كلام فكري طنّانٍ رنّانٍ وهو يدفن موتاه؟
كان هناك أيضاً شعور بعدم الجدوى تتركه اللقاءات الفكرية بأننا قد رأينا كل هذا من قبل. أصغي إلى بعض الحجج المتداول بها بالنسبة إلى قتل حماس مدنيين إسرائيليين، والعديد منها استُخدم من قبل بالنسبة إلى الانتحاريين. ما الفرق بين الإرهاب والإرهابيين؟ (أعتبر أن الهجوم الذي شنّته حماس كان عملاً إرهابياً، ولكنني لا أعتقد أنّ ذلك يجعلها منظمة إرهابية. الإرهاب نوع من العنف السياسي. تلجأ إسرائيل أيضاً إلى الإرهاب، وهذا لا يجعلها هي الأخرى منظمةً إرهابية). ما الفرق بين فهم العنف السياسي وغضّ النظر عنه؟ قمت مرّةً باختراع كلمة مرتبطة بالانتحاريين: الإكزيغوفوبيا، أي الخوف من التفسير الاجتماعي التاريخي، وهو منتشر على نطاق واسع الآن. لو كان بإمكان الفكر المنطقي أن ينتصر على السياسة غير المنطقية، لما كنّا حيث نحن الآن. وأنا لا أتكلّم هنا فقط عن السياسة في الشرق الأوسط. أتكلّم عن الصعود المتكرّر للسياسة اليمينية المتطرّفة والعنصرية والتعصّب الجنسي والهوموفوبيا، إلخ.
يتبادر إلى ذهني الكثير من الأمور، ولكنّ العديد منها لا يستحق كتابته. بين الحين والآخر، يبرز شيء لا يجعل المرء يكرّر الحجج نفسها حتّى الملل، ويثير أفكاراً جديدة. أتحدّث عبر زوم مع صديقي عبّاس الزين (هو في أستراليا وأنا في ألمانيا) وأتكّلم عن هذا الموضوع. يبدي ملاحظةً وجيهة وجدتُ أنها تستحق التفكير بها: يُشبه هجوم حماس إلى حدّ كبير عمليات خطف الطائرات الأولى التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية، بمعنى أنّ الهجوم طريقة لتأكيد وجود الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية في وجه واقع (عودة السلام بين الأنظمة العربية وإسرائيل) كان يتجلّى وكأنهم وحقوقهم ومعاناتهم غير موجودين.
ولكنّ أوجه التشابه تتوقف هنا. فالطابع المعقّد للعملية والنوايا الاستراتيجية ودرجة ونطاق قتل المدنيين المختلفة إلى حد مروّع تأخذنا إلى مكان آخر. وبالفعل لقد أخذتنا إلى مكان آخر.
سؤال وجيه آخر يطرح نفسه هنا نظراً إلى الروابط التي تجمع بين حماس والسياسة الإيرانية: هل المقاومة المناهضة للاستعمار ممكنة في عصر يبدو أن المكائد الجيوسياسية تسيطر عليه بشكل مفرط وأكثر من أي وقت مضى؟
أسمع أحد الصحافيين البريطانيين اليمينيين يقول للمذيع بيرس مورجان إنّ أهل غزّة ليسوا بالضبط معارضين للحرب. من اللافت دائماً رؤية كيف يتحسّر بعض الغربيّين لفكرة أنّ المستعمَرين مبتذَلون للغاية وعنيفون وبسطاء مقارنةً بذوقهم الرفيع. كما لو أنّه كان ينبغي أن تُنتج سنوات عدّة من الهمجية الاستعمارية ثقافةً كوزموبوليتانية ليبرالية لطيفة. هناك العديد من الفلسطينيين في العشرين والثلاثين والأربعين من العمر، ترعرعوا في غزّة وكبروا وهم يتعرّضون بشكل متواصل للقصف والسجن والإهانة على يد الإسرائيليين، وهم يخسرون قريباً هنا، وصديقاً هناك، وطرفاً هنا، وقطعة صغيرة من روحهم هناك، كلّ سنة وأحياناً كلّ شهر. هل من الصعب للغاية تخيّل لما لم يستطيعون بكاء ضحايا عمليات القتل التي ارتكبتها حماس في 7 تشرين الأول؟
بالطبع هناك البعض منّا، من موقعه المريح اجتماعيًا وجغرافيًا، ممّن كان قادراً، على الرغم من معارضتنا للمشروع الإثني القومي الصهيوني، على أن يبكي ضحايا عمليات القتل التي ارتكبتها حماس. ولكن، على الرغم من ذلك، وجدنا أنفسنا عاجزين عن مشاركة حدادنا بالطريقة التي بكى فيها الإسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون الضحايا، إذ سرعان ما بدأ قتل الإسرائيليين للمدنيين يطغى على قتل حماس بحجمه وانتقاصه العنصري من قيمة مَن كان يتمّ قتلهم، وأصبح من الواضح أنّ هذا لم يكن حداداً عادياً على الموتى. كان هذا حداداً تفوّقياً عنصريّاً: كان العالم مدعوّاً إلى تقبّل أنّ الإسرائيليين المقتولين، وعلى عكس الفلسطينيين الذين يقتلون طوال الوقت، كانوا فريدين من نوعهم وأنّهم موتى متفوّقون يحتاجون إلى أن يتمّ الانتقام لهم بطريقة تذكّر الجميع، ولكن بشكل خاص القَتَلة، بمدى تفوّقهم. أي شيء أقل من ذلك صُنِّف «معاداة للسامية».
بالنسبة لأي شخص مطّلع على تاريخ إسرائيل الاستيطاني، كان من الواضح جداّ أنّ اقتحامها الانتقامي لغزّة توفّرت فيه كلّ صفات الحملات الاستعمارية التأديبية. بالفعل، اتّبعت العملية سيناريو معروفاً، تكرّرت هيكليّته في كلّ مساحة مستعمَرة وعلى يد كلّ قوّة استعمارية من دون أي استثناء: يجتاح المستعمِرون المكان، ويسيطرون على أرض، ويطردون السكان الأصليين من أراضيهم وبيوتهم، ويدمّرون سبل عيشهم وأنماطهم الحياتية. ثمّ، يبعدون المستعمَرين رويداً رويداً أو يجمّعونهم ويجعلونهم يعيشون في ظروف لا تُحتمل. عندما يصل المستعمَرون إلى مرحلة «لا يستطيعون فيها التنفّس»، على حدّ قول فرانز فانون، يثورون، ويشنّون هجمات، ويقتلون بعض المستعمِرين– أحياناً بطريقة مروّعة بالفعل. عندها يُعرب المستعمِرون عن سخطهم كما لو أنّه لم يكن هناك سبب على الإطلاق لسلوك دموي همجيّ كهذا. ويؤكدون على «حقّهم في الدفاع عن أنفسهم» ويطلقون «حملة تأديبية». دائماً ما تكون هذه الحملة التأديبية خارج نطاق القانون وهي تستخدم العبارات القانونية الخاصة بالحقوق، ولكنها تسعى إلى الانتقام وقتل أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين بطريقة غير قانونية على الإطلاق. ويستخدم المستعمِرون أحدث تقنيات القتل ضدّ قوّة قدراتها عسكرية أقل بكثير، ويشرعون في عملية قتل وإبادة جماعية على جميع الأصعدة تهدف إلى تلقين السكان الأصليين درساً «لن ينسوه أبداً». لطالما بكى المستعمِرون على أحبائهم الموتى بهذه الطريقة. الولايات المتحدة والفرنسيون والبريطانيون خبراء في المجال. من المفترض أن يكونوا جميعاً قد كفّروا عن استعمارهم السابق، ولكنّهم انضمّوا بسرور إلى التحالف الدولي المشجّع للحملة الاستعمارية الإسرائيلية. يحفل التاريخ الاستعماري الأسترالي بعمليات قتل وإبادة جماعية تأديبية كهذه. ولكن، بطريقة أو بأخرى، لم تستطع الحكومة الأسترالية رؤية أوجه التشابه عندما أعلنت دعمها الكامل لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. حاول أن تفهم إن استطعت. يعطينا التاريخ الإستعماري الألماني في أفريقيا أمثلة بارزة عن عمليات قتل وإبادة جماعية تأديبية مماثلة. ولكنّ الحكومة الألمانية أيضاً لم تستطع تذكّر تاريخها. تتذكّر إحدى الفظائع التي ارتكبتها لتحجب ذكرى واحدة أخرى. أفكر بكلّ هذه الأمور، ولكن لم سبق لي أن كتبتها بالترتيب الذي حصلتْ به قبل الآن. كنت أدوّنها أجزاء. حديث في ستوكهولم عن التدمير. بعض المنشورات على مواقع التواصل. أعيد تجميعها وأنا أكتب في هذه اللحظة بالذات.
كنت أفكر بعدم القدرة هذه على الكتابة عندما تواصل معي فادي بردويل مجدداً لمعرفة إن كنت قد استطعت كتابة مقالٍ له وهو يفهم الصعوبة بوضوح على الرغم من أننا لا نتكلّم عنها كثيراً. أقول له إنني أحاول ولكنني أقول لنفسي إنّ هناك أكثر من أهوال هذه المجزرة وعدم رغبتي بأن أكون آكل جِيف، وكلّ ذلك يوقفني عن الكتابة. أشير إلى أنه خلال فترات القتال الكثيف أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، كنت أعجز أحياناً عن إنهاء جملي. إلّا أنه خلال هذه الحرب، أعجز عن البدء بها. كلّ جملة نبدأ بكتابتها مليئة بالأمل. يستغرق إنهاء جملة وقتاً وعندما نلفظ الكلمة الأولى نأمل على أقل تقدير أن نبقى على قيد الحياة لوقت كافٍ لإنهائها. أن تبدأ جملاً حتّى عندما لا تنهيها علامة أمل، حتّى ولو كان عدم إكمالها يعني أنّ أمَلَك قد قُوّض في منتصف الطريق. ولكن ألّا تكون قادراً على بدء جُملٍ هو علامة اكتئاب.
بعد أن تكلّمت مع فادي، تبادرت إلى ذهني حادثة من الماضي في منتصف الليل. تقبّلت منذ عدد من السنوات أنّه على الرغم من أنّي نادراً ما أواجه مشكلةً في الذهاب إلى النوم، فإنّي أعجز عن النوم لأكثر من أربع أو خمس ساعات كلّ مرة، مما يعني أنّني أستيقظ عادةً حوالى الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً وأجد نفسي في وضع لا أستطيع فيه الذهاب مجدداً إلى النوم ولا النهوض وفعل شيء. لذا غالباً ما أمضي ساعة أو ساعتين لا أكون فيها متأكداً إن كنت أحلم أو أتذكر أموراً. وفي لحظة كهذه، تذكّرت هذه الحادثة وشعرت أنه من المهم أنني تذكرتها عندها، سواء كانت حلماً أو ذاكرة.
كانت الحادثة متعلّقة بشيء حدث في قرية مهج اللبنانية (هذا ليس اسمها الحقيقي)، وهي إحدى القرى حيث بدأت منذ حوالى عشرين عاماً عملي الميداني لكتابي الشرط الاغترابي – والآن قد تذكّرت أنّ فادي، وقد كان طالباً شاباً، رافقني إلى هذه القرية في ذلك الوقت، ولذا قد يكون ذلك قد ساعد على تنشيط ذاكرتي. ولكن قبل ذلك الوقت بكثير، كانت القرية مكاناً عزيزاً على ذاكرتي. في بداية السبعينات، كان لدى صديق لي من المدرسة منزل قديم الطراز فيه غرف تتردّد الأصوات فيها بشكل جيّد جداً، وكان قد وضع فيها أجْوَد المعدات الصوتية وكنّا نحتسي فيها المشروبات على أنواعها وندخّن الأشياء على أنواعها ونستمع إلى أشياء على أنواعها (وكان فرانك زابا، ماهافيسهنو، تيلمان، وبارتوك المفضّلين على الإطلاق).
بعد أن هاجرت إلى أستراليا، وكلّما كنت أعود إلى لبنان، كان الذهاب إلى مهج بمثابة طقس يتخلّله لقاء بالأصدقاء ولقاء بالمكان. بالنسبة إليّ، كان ذلك أكثر أهمية من رحلة الحجّ والعودة الإعتيادية من الإغتراب. وقد كان الأمر كذلك لأنني في ذلك الوقت، كنت أتحوّل من معتنق سياسة مارونية مسيحية يمينية موروثة دون انتقاد إلى أسترالي يساري. وقد اكتسى المكان الذي كان يتألف من أصدقائي القدامى (الذين كانوا في أغلبيتهم موارنة) ومن البيت القروي أهمية خاصة بالنسبة إلي، إذ كان المكان الوحيد الذي لا تزال تربطني به علاقة منذ سنوات المراهقة والمكان الوحيد حيث أستطيع أن أتصرّف على طبيعتي وحيث لم يكن عليّ أن أخبّئ آرائي المتغيرة بشأن العالم مثلما كنت مضطراً لفعله برفقة أقربائي وعائلتي.
حصلت الحادثة موضوع الكلام عام 1981: كنت قد عدت للتوّ إلى لبنان، وكنت مع أصدقائي نستمع إلى بعض الموسيقى وندخّن بعض الحشيشة عندما انضمّ إلينا أصدقاء لصديقنا لم أكن قد التقيت بهم من قبل. في البداية، سارت الأمور كالعادة إلى حد كبير: حديث مطوّل عن الموسيقى وتبادل للطرائف والنكات، ولكن سرعان ما انتقلنا إلى الحديث عن السياسة، وبدأ أحد الواصلين الجدد بتقديم حجج «المارونية السياسية» التقليدية: يريد الفلسطينيون السيطرة على لبنان وجعله بلدهم كبديل عن فلسطين ويريدون طردنا «نحن» من لبنان.
لم أستطع ايقاف نفسي عن القول: هذا مجرّد هراء.
التفت نحوي كما لو كنت قد نفيت للتوّ الحقيقة الأكثر أهمية التي كانت أساس وجوده، وسرعان ما أصبح هجومياً للغاية وقال: أغرب عن وجهي الآن، لا أعرف من أنت ولكن من الأفضل أن تغرب عن وجهي. لا نحتاج إلى سماع هذه الترّهات هنا.
لم أخف من عدوانيته الأوّلية وواصلت قائلاً: حسن. أنا مهتمّ بمعرفة أي أدلة لديك على أنّ الفلسطينيين يريدون لبنان بديلاً عن فلسطين. أنظر إلى كتبهم المدرسية. لماذا يواصلون تدريس أطفالهم أن أهم شيء على الكرة الأرضية هو العودة إلى فلسطين إن كان ما تقوله صحيحاً؟ نظر إليّ كما لو كنت حقيراً فعلاً. أصرّيت: هل لديك أي دليل عدا عن حقيقة أنّك تعتقد أنّ ذلك صحيح؟ وفيما كنت أنهي الكلام، وقف الرجل وقال مهدداّ: تريد دليلاً. سأذهب إلى سيارتي وأجلب مسدّسي. هل سيكفي هذا الدليل؟
هذه المرة خفت. ولكنني استجمعت ما يكفي من الشجاعة لأقول: انسَ الأمر. لا أتعامل بالأسلحة. أفضّل الاكتفاء بالكلام. كانت صحوةً صعبة: العيش في أستراليا كطالب راديكالي وإمضاء ليالٍ في مناقشة الماركسيّة والإمبريالية والسياسة العالمية كان قد خدعني وجعلني أعتقد أنّ السياسة نقاش فكري طويل قد تتخلّله مشادات كلامية في أسوأ الحالات. ذلك المساء، أدركت في ذلك المكان وفي تلك اللحظة أنّني كنت مجرّد طالب أسترالي غبيّ. لم أكن محارباً، ولكن- بصراحة- كنت ممتنّاً لكوني لستُ محارباً إذ إنني لم أكن أريد أن أكون واحداً. لأنني لو كنت محارباً، كان ذلك يعني أنّه سيأتي وقت سيكون عليّ فيه أن أتوقّف عن المشاركة في «نقاشات وجيهة» وتسوية الأمور بالقوّة. لم يكن ذلك أمراً أطمح أن أقوم به يوماً.
أعتقد أنّ سبب تذكّري لهذه القصّة بشكل شبه واعٍ في منتصف الليل هو أنّه منذ حرب غزّة، أصبحت مدركاً بشكل أكبر وأكثر من أي وقت مضى أنّه بالنسبة إلى إسرائيل/ فلسطين أجد نفسي أكثر فأكثر في حالات حيث ثقافة المحاججة والنقاش التي أعيش فيها باتت تتغلغل فيها ثقافةُ تحارُب عنوانها «أُصمت وإلّا». لا يمكنني أن أكون متأكداً، ولكنني أشعر أنّه لا بدّ من أن يكون ذلك قد ساهم في الصعوبة التي أواجهها في الكتابة عن غزّة. لا تتعلق المسألة بالخوف من التعرّض للتنمّر من قبل هذه الثقافة وفيها– فأنا لا أتأثّر بالانتقادات بهذه السهولة. تتعلق المسألة أكثر بالاشمئزاز من رؤية هذه الثقافة تتطفّل على عالمي الفكري وتسيطر عليه. في حين أنّ ما من أحد يهدّد بتوجيه مسدّس إلى رأسي، كوني في أوروبا، وبالتحديد في ألمانيا، مع «صهوينيتها الودية» التي يشرّعها الذنب، وكوني أتعرّض لجميع المحرّمات المرتبطة بالتكلّم عن إسرائيل، أشعر بشكل قوي بتطفّل هذه الثقافة، المدعومة من أدوات الدولة، والتي تعتبر أنه من الطبيعي استخدام التهديد بالقوة (الغرامات، والسجون، وسحب الأموال المخصّصة للبحوث) لإنهاء نقاشات فكرية معقّدة ولوضع حدّ للتفكير النقدي: ثقافة من نوع قل هذا وذاك وأنا سأتصل بالشرطة وأبلّغها عنك. أعرف أنّ هذا يحدث في أماكن أخرى. لم يحدث في لبنان الذي كبرت فيه، ولكنني أعرف أنّه يحدث الآن. اعتبِروني أحمق ولكن لا يزال من الصعب عليّ أن أصدّق أنّ هذا يحصل فعلاً في الولايات المتحدة وغرب أوروبا. ولكنّه يحصل. لم يحصل حتى الآن في أستراليا، ولكنه بدأ يطلّ برأسه: مثلاً، إنّ النقاشات حول الفرق بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، وهو فرق له تاريخ طويل تكلّم بشأنه أشخاص مطّلعون للغاية أمضوا سنوات وهم يجرون أبحاثاً ويحاولون فهمه، باتت تحدّده الآن لنا بكل بساطة وبشكل مبدئي حكومات وإدارات جامعات.
أشعر أنّ غزّة تدفعنا بخطى ثابتة نحو مسار تاريخي سيسيطر فيه «المحارب» على «المفكّر»، نحو عالم مصمّم على الانتقاص من قيمة «التفكير النقدي»، عالم سأنتمي إليه أنا كأكاديميّ أقلّ وأقلّ. لعلّ هذا ما يصعّب عليّ الكتابة كثيراً. ولكنني استطعت الكتابة. استطعت في نهاية المطاف أكل بعض الجِيَف.