فادي بردويل: يشكّل عالم الفنّ اليوم إحدى ساحات المواجهة العالمية حول المسألة الفلسطينية. فمن ناحيةٍ، نشهد محاولاتٍ عدّة لفرض رقابةٍ على فنّانين فلسطينيين، وفنّانين متضامنين مع التحرّر الفلسطيني، عبر إلغاء دعواتٍ، وإخضاعهم لعملية استقاء المعلومات الشخصية أو دوكسينغ (Doxxing). ومن ناحية أخرى، يتمّ التعبير عن أشكالٍ مختلفةٍ من التضامن. لربّما من غير المبالغ فيه القول إنّ الشّرخ غير مسبوق.
لكن، قبل أن نتحدّث عن وجهة نظرك حول ما يحدث اليوم، أريد أن نأخذ خطوةً إلى الوراء للتفكير بفرض الرقابة على فلسطين قبل 7 تشرين الأول. وإنّني مهتمٌّ بشكلٍ خاصٍ بوجهة نظرك كفنّانةٍ فلسطينيةٍ عملت عن قربٍ في سياقاتٍ متعدّدةٍ كالنروج والعالم العربي وألمانيا والولايات المتحدة، ولكن أيضاً كشخصٍ جعل برلين موطناً له من أكثر من عقدٍ من الزمن.
جمانا منّاع: تمزّقت حياتنا بشكلٍ جماعيٍ ومن الصعب أن نُدرك بشكلٍ كاملٍ كيف ستكون الحياة عَقِب نقطة التحوّل التاريخية هذه. هناك شعورٌ عامٌّ بأنّه ما من عودةٍ إلى سير الأمور كالعادة. وينطبق هذا على الوضع الراهن للاحتلال والفصل العنصريّ بقدر ما ينطبق على أيّ مشاركةٍ معرّضةٍ للخطر في فضاءات الغرب الثقافيّة. بدأ كثيرون في هذه اللحظة التساؤل عن القيمة التي يمكن للعمل الفنيّ أن يقدّمها في وجه إبادةٍ جماعيةٍ، وهم في الوقت عينه مُدرِكون كلّ الإدراك أنّ المعاصرة والمؤسسات الأعزّ على قلبها قائمةٌ على تواريخ مستمرّةٍ من همجيّة الإبادة الجماعية.
لا داعي للقول إنّ العنف المؤسّسي يَبْهَتُ مقارنةً بالإهلاك الجسديّ لحياة الفلسطينيين في غزّة الآن. حتّى إجراء هذا الحوار مشحونٌ بمشاعر متعارضة من الفقدان، والذنب، والضرورة. خسرتَ وظيفةً ما أو التزاماً عامّاً، أو كُتبت بعض المقالات المقيتة عنك، لكنك على الأقلّ ما زلت أنت وأسرتك على قيد الحياة، ومنزلك وجسدك سَلِيمان. على الرغم من ذلك، نعرف أيضاً أنّ الرمزيّ والماديّ مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. فسرديّات نزع الصفة الإنسانية هي التي أتاحت وحاولت إلى حدٍّ ما التعتيم على العنف المادّي ضدّ الفلسطينيين. لهذا السبب، تتعرّض وجهات النظر والتحليلات والرغبات الجماعية التي تتحدّى كولونياليّة (coloniality) ظروفنا الحاليّة المعُرب عنها في المجالات التمثيليّة للثقافة، لهجومٍ شرسٍ. السرديّات أساسيّةٌ لبلورة ذواتنا، بينما تولّد المعطيات السياسية والمادّية معطياتٍ جديدةً، تجبرنا على إعادة النظر في كيفيّة فهمنا لأنفسنا ولعملنا الفنّي.
من الواضح منذ فترةٍ طويلةٍ أنّ الخوف من فلسطين حقيقةٌ تاريخيّةٌ في الجمهورية الفدرالية الألمانية إذ يتكلّم الفلسطينيون-الألمان الذين كبروا هنا عن مستويات من الإنكار والإسكات التي يصعُب على الفلسطينيين الذين كبروا في إسرائيل فهمها. كراهية الأجانب متأصّلةٌ في مختلف أنحاء أوروبا، وألمانيا بشكلٍ خاص. رأينا تفلّتها بعد أن سمحت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بدخول مليون لاجئٍ إلى البلد لزيادة أعداد السكّان المتضائلة والتصدّي لنقص العاملين في مجال الخدمات. ولكنّ قانون عام 2019 ضدّ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات الذي اعتمده البوندستاغ الألماني زاد فعلاً وبشكلٍ واضحٍ الطين بلّةً. فمنذ ذلك الحين، هناك زيادةٌ ملحوظةٌ في عمليات إلغاء الدعوات الموجّهة إلى أيّ أفرادٍ ومجموعاتٍ لها أيّ ارتباطٍ بالنضال الفلسطيني والتراجع عنها. قبل أيّ توظيفٍ أو دعواتٍ للمشاركة في معارض، يتمّ التدقيق في موقف الأفراد من فلسطين/ إسرائيل. ولا ينحصر هذا بالفلسطينيين وحسب، بل يمتدّ ليشمل اليهود المعادين للصهيونية وآخرين إمّا يرفعون الصوت بشأن فلسطين أو «نزع الكولونياليّة» (decoloniality)، أو وقّعوا على رسائل مفتوحة وعرائض، أو حتّى عملوا مع آخرين عملوا على فلسطين: أي، مذنبون بحكم العلاقة.
لربّما يمكنني القول إنّه في مختلف أنحاء الغرب، هناك تفادٍ طويل الأمد لما يسمّى بالمصطلحات «غير المريحة» لأنّ وسائل الإعلام التقليدية ومؤسسات أخرى صاحبة امتيازات قد منعت لمصالحها الخاصة نشرها وتطبيع استخدامها في الكلام: الفصل العنصري، والاستعمار-الاستيطاني، وحتّى النكبة… وتُذكّرنا عدم القدرة على توجيه انتقاداتٍ علنيةٍ إلى دولةٍ ترتكب، فيما نتكلّم، احتلالاً عسكرياً دموياً ووحشياً وإبادةً جماعيةً بلا خوفٍ من عقوباتٍ أو تداعياتٍ قانونيةٍ، تذكّرنا بفترةٍ في الغرب يريد كثيرون التظاهر بأنّها من الماضي. على عكس ذلك، لعلّني أستطيع القول إنّ القيود العقابية التي يتمّ تطبيقها على أشكال التعبير النقدي أقرب ما تكون إلى تكرارٍ جديدٍ لشكلٍ أقدم من الرقابة الفاشية التي، من جملة مخاطر أخرى، تحدُّ من إمكانية التفكير النقديّ بحدّ ذاته.
ف.ب.: هلّا كلّمتِنا أكثر عن منظومة الرقابة قبل 7 تشرين الأول؟ كيف تعمل؟ وهل كانت تتمّ مواجهتها؟
ج.م.: الشكل الأكثر شيوعاً للرقابة، قبل 7 تشرين الأوّل بكثير، هو فكّ الارتباط، أو اللادعوة. غالباً ما يصعب تحديد المنع المظلّل (Shadow Banning) أو التعرّف إليه. هل لم تأتِ تلك الدعوات لأنّ عملك لم يكن جيّداً ومناسباً بما فيه الكفاية، أم بسبب موقفك المؤيّد لفلسطين؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال إلّا إن كان هناك شخصٌ ما في لجنة تحكيمٍ أو لجنة أمناء فنّيين سيُعلمك بالسرّ أنّه لم يتمّ اختيارك بسبب آرائك السياسيّة أو مضمون عملك.
في ألمانيا، حالات فكّ الارتباط عديدةٌ بما فيه الكفاية لأؤكّد لكم أنّ المنع المظلّل منتشرٌ. على سبيل المثال، شوّهت لجنةٌ مسؤولةٌ عن التوظيف لصالح أكاديميةٍ فنّيةٍ سمعة فلان، الذي يبدو أنّه كان المرشّح الأوفر حظّاً للحصول على الوظيفة، بعد أن أصرّ أحد أعضاء اللجنة على أنّ فلان قد اتُّهم بأنه معادٍ للسامية، على الرغم من أنّ فلان يهوديٌّ مولودٌ في إسرائيل. رفضت المجموعة تسجيل القرار بصورةٍ كتابيةٍ وأُجبرت على التزام الصمت إزاء كلّ ما لم يتمّ تدوينه بشكلٍ رسميٍ في المحضر.
أفاد عضو في لجنة تحكيمٍ لقبول ترشيحاتٍ لأحد المهرجانات، أنّه ترك وظيفته بعدما اتّضح له أنّ السبب الوحيد لعدم قبول فيلمٍ كان محتواه المؤيّد لفلسطين.
لم يتمّ قبول مرشّحٍ من جنوب شرق آسيا في برنامج مِنحٍ لأّنه كان مرتبطاً بما يسمّى بـ«فضيحة معادة السامية» في معرض دوكومنتا 15، ولم تكن الجامعة تريد لفت الانتباه إلى هذا الموضوع الاستفزازي.
أخبرني أمناء فنيون بعد انتهاء أحد المعارض، أنّ مدير المتحف الذي يعملون فيه كان قد سألهم عن موقفي من حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل. رفضوا الردّ وأصرّوا على أنّ قناعاتي السياسية ليست من شأنهم وأنّني هناك لأعرض أعمالي الفنّية.
المثال الأخير دليلٌ على أنّه لا يزال هناك أفرادٌ يفهمون آليات الرقابة بدرجاتٍ مختلفةٍ، أو لربّما يحاولون الدفاع عن مواقفَ متضامنةٍ مع فلسطين، أفرادٌ يفهمون أنّ الاختلاف ليس تهديداً لثقافة الذاكرة الألمانية– على النحو الذي غالباً ما يقدّمه الإستبلشمنت– ولكنه مورد محتمل لنقاشاتٍ أكثر ثراءً وتعقيداً حول المسؤولية والتداعيات.
مع ذلك، نتعامل مع مشكلةٍ بنيويّةٍ، وهي أنّ المؤسسات الثقافية الألمانية مكبّلةٌ من قبل نظام التمويل الحكومي، ولم يُبذل ما يكفي من الجهود للاحتجاج على ذلك. فمن جهة، سمح التمويل العام لألمانيا بأن تتمتّع بأحد أكبر أعداد المراكز الفنّية العامة للفرد في العالم، فضلاً عن تعليمٍ جامعيّ مجّاني. ولكنه، من جهة أخرى، ولّد جوّاً من الخوف والإسكات، حيث الأجهزة التربوية والتعليمية والثقافية مقيّدةٌ بالشروط التي تضعها الدولة. ولا توجد «الديمقراطية» و«حرية التعبير» سوى ضمن الخطوط الحمراء التي وضعتها الحكومة الألمانية: وحالياً الخط الأحمر الأعرض هو حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، أي بكلماتٍ أخرى، فلسطين. وبما أنّ حريّة التعبير ترتبط بادئ ذي بدء بإمكانية انتقاد سلطة الدولة، ولا سيما بالنسبة إلى الأقليات المقموعة، بات من الواضح أنّ حريّة التعبير مقيّدةٌ بشدّةٍ في ألمانيا.
ف.ب.: فلنخرج قليلاً عن موضوع ألمانيا ومؤسساتها الثقافية المدعومة من الدولة، كيف تصفين تجربتك كفنّانةٍ فلسطينيةٍ في عالم الفنّ «العالميّ»؟
ج.م.: في أنحاء أخرى من أوروبا وأميركا الشمالية، تجربتي، برأيي، تجربةٌ يشاركني إيّاها غالبية ذوي البشرة الملوّنة، ويمكن وصفها بمزيجٍ من التضامن، والعنصرية، أو اللامبالاة. المعيار هو الاستخراجية (extractivism) والاستحواذ الثقافيان، حيث التنوّع «معروضٌ»، ولكن غير منعكسٍ في بنى السلطة، سواء كان ذلك في الإدارة أو مصادر التمويل. مثلاً، بعد حركة «حياة السود مهمّة»، ازداد عدد الإعلانات التي تتضّمن عارضات أزياء سوداوات بشكلٍ واضحٍ، ولكن مَن كان خلف العدسة؟ بقي المخرجون وبقيت الوكالات والجهات المموّلة بيضاء بغالبيتها. ومؤخّراً، بات المزيد من المؤسّسات الفنّية مهتمّاً بعرض ممارساتٍ فنّيةٍ لنزع الكولونيالية لأنّ هذا ما هو رائجٌ. ولكن عندما تُجبر المؤسسة على اتّخاذ موقفٍ علنيٍّ حول مسألةٍ عنصريّةٍ أو نضالٍ استعماريٍّ مثيرَيْنِ للانقسام، تقول، آه لا نريد تعاطي السياسة. وهذا انعكاسٌ لكيف يكون التنوّع في المجال الثقافي أحياناً تمويهاً ليبرالياً للعنصرية.
مجال الفنّ المعاصر العالمي حديثُ العهد، وُلِد من الواقع النيوليبرالي لما بعد الحرب الباردة. تدفّقت الملايين إلى الثقافة– والفنّ المعاصر بشكلٍ خاصّ– وأصبح شراء القطع الفنيّة وبيعها سوقاً غير منظّم فيه الكثير من المضاربة. تمّ بناء مؤسساتٍ، وتمّت دعوة أُناس من مختلف أنحاء العالم، وتطوّرت الاقتصادات للترويج لقيمٍ ليبراليةٍ كالتعبير عن الذات وحريّة التعبير، انطلاقاً من معتقدٍ كامنٍ بأنّ دعم الإنتاج الثقافي سيكبح حركات تمرّد المناضلين (على وجه التحديد في مناطق كمنطقتنا) وسيعزّز سوقاً رأسمالياً متكاملاً في مختلف أنحاء العالم.
شكّلت التسعينيات بداية عهدٍ جديدٍ من الفنّ المعاصر. فقبل ذلك الوقت، كان هناك عددٌ قليلٌ من الفنانين الفلسطينيّين الذين يعرضون أعمالهم الفنّية على الصعيد الدولي، خارج ما كان يُعرف بالمعارض التضامنية التي أنشأتها منظمة التحرير الفلسطينية والعديد من الحلفاء من حركة عدم الانحياز. قال لي الفنّان والمؤرّخ الفنّي الفلسطيني الراحل كمال بُلّاطة مرّةً، إنّه كان يتمّ اختيار أعمال الفنّانين العرب لعرضها في معارض الفنّ الإسلامي، وليس معارض الفنّ، بغضّ النظر عن دينهم. هذا ولن تحظى سامية حلبي الملهمة للغاية، والتي عاشت في نيويورك لخمسة عقودٍ، بأوّل معرضٍ بأثرٍ رجعيٍّ لها في متحفٍ أميركيّ بارز سوى عام 2024. واقع الفنّ المعاصر الفلسطيني المنتشر في المتاحف الدولية عمره بضعة عقودٍ فقط، وهو يعرض أعمال جيلٍ محدودٍ من الفنانين. وجودنا في هذه المؤسسات وسوق الفنّ قائمٌ على النظام الليبرالي لما بعد الحرب الباردة، الذي يكشف مجدّداً حدوده و/أو هشاشته.
ف.ب.: قلتِ لي في حديثٍ سابقٍ إنّ الحياة اليومية في برلين عقب 7 تشرين الأول أصبحت خانقةً. هلا أخبرتني المزيد عن تجربتك اليومية في مدينتك؟ هل أصبحتِ تشعرين فجأةً أنّها لم تعد مدينتك؟
ج.م.: ذكّرني تشرين الأول 2023 في كرويزبرغ-نويكولن بالقدس خلال الانتفاضة. لذا، في حالتي، وبشكلٍ مخيفٍ وغريبٍ، شعرت أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنّها مدينتي.
من الواضح منذ عقودٍ أنّ الفلسطينيين ليسوا أكثر من مصدرِ إزعاجٍ للدولة الألمانية. وما من مكانٍ لوجهات نظر ألمان من غير البيض في «الإرينرونغكولتور» (errinerungskultur) (ثقافة الذاكرة) التي تدمج بين اليهودية والصهيونية، وتضع حماية إسرائيل على رأس سلّم الأولويات.
ولكن ما حصل عقب 7 تشرين الأول كان تسارعاً هستيريّاً للشعور المعادي للفلسطينيين، إذ تمّ حظر الاحتجاجات التضامنية مع فلسطين، أو الاحتجاجات ضدّ الحرب على غزّة. وسارعت الشرطة إلى احتلال حيّ نويكولن الذي يضمّ جاليةً فلسطينيةً وعربيةً كبيرةً. وتمّ توقيف السيارات بشكلٍ دوريٍّ للتأكّد من عدم وجود محتوى فلسطيني كالأعلام أو الكوفيات، الممنوعة من المساحات العامة والمدارس. وكان تحديد الملامح العرقيّ، خاصةً للرجال العرب، منتشراً في الشوارع، وتعرّض المتظاهرون لهمجية الشرطة. وتمّ توقيف امرأةٍ، عائلتها من غزّة، لأنها كانت ترتدي دبوس علم فلسطين على سترتها. وتمّ منع شعار «من النهر إلى البحر». لكن أيضاً تكاتفت أوساط الجاليات العربية مع جالياتٍ أخرى من المهاجرين وأقليةٍ من الحلفاء من الألمان البيض. وفي تلك الأثناء، وكما في أيّ مكانٍ آخر في العالم، أصبحت خطوط التصدّع أوضح من أيّ وقتٍ مضى.
ف.ب.: قبل أن تدركي أنّك أنت بنفسك هدف حملات دوكسينغ ممنهجة في الإعلام المكتوب وعلى الانترنت، ما كانت قراءتك لردود الفعل الأوّليّة، سواء تضامناً مع، أو رقابةً على، الأصوات الفلسطينية في الساحة الفنيّة الألمانية وعلى نطاقٍ أوسع؟
ج.م.: المؤسسات الألمانية؟... لم تصدر عنها ولا حتّى كلمةً تضامنيةً مع فلسطين. أتى التضامن من أماكن صغيرة وغير متوقّعة: حاناتٌ ومقاهٍ كتبت بياناتٍ قويّةً داعمةً لفلسطين. مجموعاتٌ يهوديةٌ معاديةٌ للصهيونية كالجبهة اليهودية العامة وجوديش ستيمي (Judische Stimme)، ومجموعات آباء وأمهات في نويكولن احتجّت على حظر التعابير الفلسطينية في المدارس. رُفع الحظر على التظاهر في نهاية المطاف في أواخر تشرين الأول، وأصبحت التظاهرات المؤيدة لفلسطين منذ ذلك الحين كبيرةً، ليس مقارنةً بلندن أو نيويورك، ولكن، بالتأكيد مقارنةً بالتظاهرات المحلية المؤيدة لإسرائيل، تبقى مظاهراتنا حاشدةً وقويّةً. وأثبت هذا التعبير عن التضامن في الشارع أنّه على الرغم من أحادية الجانب الشديدة للدولة والإعلام، لا تصدّق الأجيال الشابة، على وجه الخصوص، السردية الدوغماتية.
هناك العديد من المبادرات الجارية في برلين لمحاولة توثيق الحظر المفروض على الأماكن العامة والتضييق عليها ومكافحتهما. ويتعقّب مركز الدعم القانوني الأوروبي، وتحالف الجاليات، وأرشيف الصمت عمليات الإلغاء. وقد تشكّلت مجموعاتٌ أصغر للضغط على نقابة الفنّانين لحماية الاستقلالية الفنية والأصوات المؤيدة لفلسطين. ويعمل آخرون على إنشاء مجموعات دعمٍ داخل الساحة، بهدف توفير الدعم الاجتماعي، والمالي، والقانوني، كما وضع الاستراتيجيات السياسية داخل الساحة الثقافية. وقد كتب العديد من الأفراد والمجموعات رسائل قويّة ترفض الحالة الراهنة.
هناك حركةٌ أقلّيةٌ تحارب الرقابة المدعومة من أجهزة الدولة. وتفهم هذه المجموعات أنّ الهجوم على فلسطين هو بوابةٌ للسلطوية، وجزءٌ من عاصفةٍ شديدة تتألّف من سياسيين يمينيين يشقّون طريقهم المهنيّ عبر شيطنة المهاجرين، أو كلّ من يصنّفونه غيرَ أبيض.
نظراً إلى ذلك، لست متفائلةً حيال العقد القادم. فالمشروعان القانونيان اللذان رفعهما اتحاد المعارضة إلى البوندستاغ، ألا وهما «مكافحة معاداة السامية، والإرهاب، والكراهية، وخطاب الكراهية» و«إنهاء إقامة الأجانب المعادين للسامية ومنع تجنيسهم»، مقلقان للغاية. إن تمّ اعتمادهما، سيكون لهما أثرٌ شديد الضرر على المهاجرين في ألمانيا. وفي غضون ذلك، كشف تقريرٌ للتوّ أنّ 300 حالة عنف على يد يمينيّين بقيت من دون معالجة في نظام الشرطة الألمانية. وتدريجياً، تزداد شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا»– الحزب السياسي اليميني المتطرف الذي تمّ تأسيسيه عام 2013– ويزداد عدد مقاعده في الحكومة. ألمانيا على مسارٍ مرعبٍ.
ف.ب.: إن حاولنا الابتعاد بعض الشيء عن حملات الدوكسينغ والرقابة الممنهجة، هل تعتقدين أنّ هناك أمراً محدّداً في طريقة عمل عالم الفنّ سيساعدنا على فهمٍ أكثر لآليات الرقابة هذه؟
أفكّر في الوقت عينه بأجندات الأمناء الفنيين، مثلاً ثيمة «إزالة الكولونيالية» التي ازداد رواجها خلال السنوات القليلة الماضية، والاقتصاد السياسي الخاص بعالم الفنّ مع شبكات المانحين، وصالات العرض، وجامعي القطع الفنية، والمجلّات، والمتاحف، وبالطبع المنتجين والأمناء أنفسهم. لذا سؤالي هو دعوةٌ لتحلّلي كيفية ارتباط الرقابة على الفنانين الفلسطينيين، ومن يتضامن معهم– يتبادر إلى ذهني هنا محرّر أرتفوروم (Artforum) الذي طُرد بعد أن أعدّ رسالةً تضامنيةً مع فلسطين جمعت أكثر من 8000 موقّعٍ– بالديناميات المعقّدة لمجالات الفنّ وعلاقتها بالقوى السياسية والاقتصادية.
ج.م.: تريد غالبية عالم الفنّ إزالة كولونيالية شكلية: ممارسة لإزالة الكولونيالية تُقدّم على أنّها أمرٌ تاريخيٌ، لا يزعزع استقرار بنى سلطة الوضع القائم. رَمَزَ افتتاح الموسم الصيفيّ لبيت ثقافات العالم (Haus der Kulturen der Welt) في برلين إلى لحظة كهذه، حيث تمّ تسليم الإدارة الجديدة إلى الكاتب والأمين الفني الكاميروني بونافنتورا سوه بيجينج نديكونج. رحّبت به وزيرة الثقافة كلوديا روت محدّدةً قواعد السلوك للإدارة الجديدة للمؤسسة، وكلّ المؤسسات الألمانية الممولّة من الدولة: التنوّع مرحّبٌ به، ولكن من دون فلسطين. «لا ندعم فعالياتٍ تروّج لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو تمثّل أهدافها». كانت هذه لحظةً صادمةً لجميع العرب في الساحة الثقافية في برلين، إذ قيل لنا بوضوحٍ– ما كنّا في الحقيقة نعرفه عملياً– إنّ ألمانيا تعتبرنا النوع الخاطئ من التنوّع: أشخاص غير مرغوب بهم.
كشف الانفجار الذي تسببت به رسالة أرت فوروم في تشرين الأول الماضي عن خطّ صدع في عالم الفنّ. لطالما كان عالم الفنّ منقسماً على محاور مختلفة: بين الذين يهتمون أكثر بشبكة صالات العرض الدولية والمعايير الليبرالية وما يكرسّه الإستبلشمنت، والتي تعطي الأولوية إلى شخص الفرد الفنان العبقري ومتطلبات نموّ السوق؛ والذين يهتمّون أكثر بالتربية والتعليم، وتشييد بنى تحتية بديلة للدعم والارتقاء الاجتماعي. هذان المحوران ليسا معزولان عن بعضهما البعض، وينتقل العديد من الفنّانين بينهما.
التمويل أساسيّ للمؤسسات ولسبل عيش العديد من العاملين في المجال الثقافي ممّن هم في وضعٍ هشٍّ. في ألمانيا، رأينا مخاطر التمويل العام. ولكن، في الولايات المتحدة، هناك تحدياتٌ بنيويّةٌ شبيهةٌ ولكنها تنبثق، عوضاً على ذلك، من الجانب الآخر: قطاعٌ معتمِدٌ ليس على تمويل الدولة بل على المؤسسات الخيرية وحافظات الأموال الخاصة الكبرى المنخرطة بشكلٍ كبيرٍ في النفط، والصناعات الصيدلانية، ومخزونات الأسلحة. في كلتا الحالتين، فكرة الاستقلالية الفنيّة وهمٌ معاصرٌ ذو حدودٍ تاريخيةٍ موثّقةٍ بشكلٍ جيّدٍ. لم يكن الفنّ ومؤسساته يوماً أحراراً من بنى السلطة والمال المهيمنين. واليوم، أدّت قيود التمويل إلى عملية نزع كولونيالية غالباً ما تكون هوياتيّة أكثر منها تحريرية. وهذا أمرٌ يتمسّك به أصحاب السلطة، ذوو البشرة الملوّنة والبيض على حدّ سواء، المهتمّون بالحفاظ على بنى السلطة الخاصة بهم أكثر من الالتزام بالتغيير السياسي.
ف.ب.: وكتعقيبٍ سريعٍ على سؤالي الأخير، كيف تقرإين الأدوار السياسية للنُّخب العربية من غير المغتربين في عالم الفنّ؟ أفكّر بشكلٍ خاصٍ بكيفيّة تطوّر ديناميات التطبيع العربي مع إسرائيل في عالم الفنّ.
ج.م.: للأسف، ليس هناك الكثير من الأمل بدول الخليج التي تشكّل مصدر الأموال الرئيسي للفنّ العربيّ– أو بعباراتٍ أدقّ– للعالم العربي عموماً. كما رأينا مؤخراً، تضمّن معرض إكسبو العالمي في دبي (2020) جناحاً إسرائيلياً يدعو الجماهير إلى الانغماس في «إسرائيل وابتكاراتها، وثقافتها، وموسيقاها».
أمّا بالنسبة إلى الأفراد من جامعي القطع الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي، فقلّةٌ قليلةٌ تعتمد في جمعها للقطع الفنية على بوصلةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ متينةٍ. بشكلٍ عام، المال يجرّ المال. تشتري غالبية جامعي القطع لكي تستثمر، وليس لبناء مشهدٍ ثقافيٍّ أكثر عدالةً، ناهيك بتعزيز حركات التحرّر.
ف.ب.: ونظراً إلى الرقابة والشرخ في عالم الفنّ، هل تعتقدين أنّه على الفنانين التفكير بتأسيس مؤسساتٍ جديدةٍ أو مواصلة العمل مع المؤسسات الموجودة؟
ج.م.: هناك حالياً موجةٌ عارمةٌ من الاهتمام بإنشاء صناديق وموارد مستقلة، ومنح، إلخ. سيؤدي الشرخ الذي نعيشه لا محالة إلى بنى تحتيةٍ جديدة. ولكنني أعتقد كالمعتاد أنّ علينا أيضاً الإصرارٌ على العمل داخل البنى الموجودة، إذ إنّها جزءٌ من حقّنا كمقيمين ومواطنين يدفعون الضرائب، وجزءٌ من المعركة العالمية ضدّ الفاشية. ولكنّ هذه اللحظة، كما نناقش منذ البداية، استقطابيةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ. سيُطرد العديد من العاملين في المجال الثقافي من الإستبلشمنت، في حين سيرفض آخرون العمل في ظلّ الرقابة المفروضة. أختتم بالقول إنّه نظراً لدرجة هشاشتنا في أوروبا كمغتربين، هناك أيضاً حاجةٌ ملحّةٌ لبناء شبكاتٍ أقوى لمواجهة ومقاومة الموجة المتصاعدة للسياسة المعادية للمهاجرين.
من مسؤوليتنا جميعاً أن نستخدم نقطة التحوّل هذه المزلزلة للعالم، والتي «عرّت الامبراطور»، كفرصةٍ لبناء شبكاتٍ أقوى، وإنشاء البنى التي نحتاج إليها لضمان تحرّرنا الجماعي.