فكرة
سلسلة
الهجرة الجديدة
سنا التنوري كرم

المساحة بين هنا وهناك: عن الهجرة والذاكرة

13 آذار 2021

يغنّي الرابر اللبناني الراس في طرابلس 97:

معمولنا بيوصل DHL حول العالم، بس ذكريات الماضي القريب ممنوع نمدهم.

وأنا أسير في شوارع برلين وأغنية الراس تصدع في رأسي، لا يسعني إلا التفكير في العلاقة بين المعمول المتنقل والذاكرة، بين الهجرة والماضي.

برلين، والهجرة بشكل عام، تحثّني على التفكير في الذاكرة والفقدان.

ماذا يعني أن تفقد شيئًا، وطنًا، تاريخًا، أو ذاكرة؟ هل الهجرة هي فعل خسارة؟

استمر بالاستماع إلى تأملات الراس عن الذاكرة والتاريخ بينما أمشي في حديقة فريدريكسهاين في برلين. في هذه الحديقة، مثل العديد من الحدائق العامة في تلك المدينة، تحول الماضي إلى تلة. جمعت المدينة جثث المباني والدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية وبنت بهم دروباً للمشي وركوب الدراجات الهوائية، وغرست فوقها أشجارًا. تحوّل الماضي إلى تلة يمكن بالصعود إليها تأمّل المدينة وغروب شمسها. حتى جدار برلين نفسه الذي قسم المدينة والبلد خلال الحرب الباردة، تمّ تحويل ما تبقّى منه إلى معرض لتعابير فنية، وتمّ تجميل جوانبه الباردة الرمادية بالألوان الدافئة.

هل هذه الحدائق والجدران محاولة برلين كتم ذاكرتها، طمس ماضيها وتقويضه ليُنبت أشجاراً وملاعب للأطفال؟ أم هل وجد الألمان طريقة للتعايش مع ماضيهم وقبوله؟

مع احتدام الجدال في الأخبار حول ثقافة الذاكرة الألمانية مجدّداً، تحدّثت إلى صديقتي عن انطباعاتي الأولى عن برلين، عن الطريقة التي تعيش بها هذه المدينة مع الماضي، وكيف تجلس مع جدرانها ومآسيها. سألتني صديقتي إذا ما كنت أرى برلين من خلال فهمي لبيروت وتاريخي الشخصي.

بيروت، المدينة التي تختبئ من ماضيها؛ المدينة التي لا تجرؤ على النظر إلى الوراء علّها تتحوّل إلى عمود ملح. بيروت، المدينة التي تسير كتماثيل كلاسيكية في أقسام العصور القديمة في المتاحف وقد أفقدها الزمن بعضاً من أطرافها. ومع ذلك، فإنها تقنع نفسها بأن الحجر، مثل بعض اصناف السحالي، يمكن أن يمتد وتنمو عروقه وأشلاؤه المفقودة.

مكتب ضباط الجويّة صار محل ألعاب حسيت بوجع معدة لما مرقت حده اختلط براسي صوت صريخ أسراه بصوت ضحكة ابن اختي عم يلعبه جده

هل هي حقا أشباح سوفياتية سمعتها عندما زرت ساحة ألكسندر لأول مرة، أم أشباح تاريخي وذاكرتي التي أحملها في صندوق معدني ينقلني من بيروت إلى برلين؟

هل يمكننا أن نسكن في مكانين أو أماكن متعددة في الوقت نفسه؟ هل هناك مسافة بين الـ«هنا» والـ«هناك»؟ وهل يجب أن تقتصر الهجرة والذاكرة على ثنائية الـ«هنا» والـ«هناك»؟

في صمت برلين المدوّي، يمكنني أحيانًا سماع الرنين في أذني الذي لم يتوقّف يوماً منذ أن فجّر حكامنا مدينتي في 4 آب بأطنان من نترات الأمونيوم. الصمت هو أيضًا أحد معالم توقف الحياة بسبب جائحة عالمية غيرت كلاً من برلين وبيروت. ولكن بينما يجد سكان برلين طرقًا مبتكرة للاستمرار بالاستمتاع بالحياة، يكافح اللبنانيون يوميًا للبقاء قيدَ الحياة. بيروت التي هجرتها قبل بضعة أشهر مدينة مكسورة. لكنّ انكسارها لا يسهّل الرحيل عنها. هذه ليست أول مرة أرحل فيها عن بيروت. لكنّ ما يجعل الرحيل اليوم موجعاً أكثر من أي وقت مضى هو الشعور بالانتماء الذي اختبرتُه، أنا وجيلي، لأوّل مرة خلال ثورة أكتوبر. انتماء للناس، لهذا المكان، وللأحلام التي فجأة، وللحظة وجيزة، أصبحت ممكنة.

ياما حكينا قصص هون وياما قصص من أوجاعنا أجّلناها تما نجرح

في ثقافة الذاكرة الألمانية، لا سيما تلك التي نشأت منذ الحرب العالمية الثانية، كان جيل ما بعد الحرب هو الذي واجه التروما التي حلّت على مدنه وشعوبه، ودافع هذا الجيل عن نهج متعدّد الاتجاهات للذاكرة ونهج ينبثق من الأسفل إلى الأعلى. ومع ذلك، فإن الصراع على الذاكرة، الذي ينبعث أحياناً من الشعور بالذنب، لا يزال قائماً في المجتمع الألماني اليوم، ولا يزال يمثّل مشكلة كبيرة. وهذا، بدوره، أدّى في كثير من الأحيان إلى إثارة خلافات معينة في الذاكرة الألمانية، وآخرها الصراع حول إمكانية انتقاد إسرائيل ومسألة معاداة السامية في ظلّ شبح المحرقة. هل تتنافس الذكريات والتروما أم تكمل وتُثري بعضها بعضاً في الذاكرة الجماعية للناس؟ هل التذكّر هو الدواء/ الشفاء؟ أو هل نسي البرلينيون فعلاً ماضيهم الأليم؟

ننسى والعمر مين بيردّه؟ شو فقسة؟ والفراغ اللي خلّوه بشجر عيلنا مين بيسدّه؟

كنت في مكسيكو سيتي المرة الأولى التي فكرت فيها بثقافة الذاكرة. أثناء زيارتي للمكسيك من الولايات المتحدة، مكان حافل أيضاً بالتخبّط مع ماضيه، أدهشتني الطريقة التي روت لي المدينة تاريخها. الكنائس الكاثوليكية التي شيدتها جيوش الإستعمار الإسبانية على أراضي السكان الأصليين بحطام حجارة معابدهم، تقف جنبًا إلى جنب مع ما تبقى من تلك المعابد. في المسافة الجغرافية بين هذين التاريخين المضادين، تمكن سكان المدينة من خلق ساحة يلتقون فيها ويرقصون ويعيشون ويتذكرون.

وأنا راسي حالم بدّه يدشّن كتاب تاريخ ينصف ناسنا نرتاح فيه كلنا مش كرامة خي الأرض شريك الوطن تعني ذلنا

إذا تخلينا عن الديالكتيك الكلاسيكي للشتات وثنائية الـ«هنا» والـ«هناك»، قد نكتسب وجودًا غير ثنائي بين الأماكن التي نسكنها، ونهج تصالحي تجاه الذاكرة. لعلّه لم يعد يتّسع لنا فقط أن نكون هنا أو هناك. لعلّ العثور على هذا الفضاء الكويري في الفجوة بين الـ«هنا» والـ«هناك»، بين الماضي والحاضر، في المساحة وليس المسافة بين الأماكن التي نعيش فيها، قد يحوّل هجرتنا من خسارة إلى ربح. حينها فقط يمكننا التفكير بمخرج من التروما التي تلتهم أحلامنا وآمالنا، وبإعادة تخيّل علاقة ماضينا بحاضرنا، وربما، بمستقبلنا.

 

سلسلة

الهجرة الجديدة

يطرح هذا الملفّ جوانب مختلفة من موسم الهجرة الحالية، هجرة آتية بعد سنة من الثورة والانهيار والانفجار. ترسم مقالات المشاركين عالماً مسلوخاً بين الـ«هنا» والـ«هناك»، وهجرةً من دون عودة تؤمّن خلاصها.

تم نشر الملف في 13 آذار 2021.


في المنفى ركاكة | نظرة
شجرة الثأر | نظرة
إلى أن ينبت العشب من تحت الزفت | نظرة
انفجار جديد، انهيار آخر: المتاهة المتجدّدة | تحليل
يوميّات مغترب جديد | يوميات
الهجرة هجرتَيْن | يوميات
الهجرة الجديدة، الهجرة الأخيرة | فكرة

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مشاهد من دمشق ما بعد الأسد
ضابطا موساد يكشفان تفاصيل إضافية حول تفجيرات «البيجرز» واللاسلكي
16,200 شخص في نظام الأسد متورّط بارتكاب جرائم ضدّ الشعب السوري
السلطة الفلسطينية تحتجز 237 عنصراً رفضوا المشاركة بعمليّة جنين
القوّات الإسرائيليّة ترفع علم الاحتلال عند مدخل الناقورة
12 شاحنة مساعدات فقط دخلت شمال غزّة خلال شهرين