عم تفكّر تفل؟
سؤال بات شبه يومي، نطرحه على أي شخص نلتقيه صدفة في الشارع، مكان الـ«كيفك؟» التي صارت سؤالاً مبتذلًا ومضجرًا. «عم تفكّر تفل؟»، سؤال أكثر واقعية وفعالية، سؤال يجرّ أسئلة أخرى:
عم تفكّر تفل؟ حتفلّ؟ حأبقى لحالي هون؟ مين باقي هون؟ لازم فلّ؟ لوين بدّي فلّ؟
منذ بضعة أشهر ونحن أمام موجة من الهجرة الجديدة، هجرة أو منفى أو مجرّد فرار. ليس مهمًا طبيعة هذه الحركة العابرة للحدود. فنحن أمام موجة جديدة من الرحيل والانسلاخ والانقطاع. هجرة قد لا تزال محصورة ببعض الأفراد، ولكنّها ستتّسع حتمًا. فلبنان بات قاعة انتظار كبيرة، فيها من يذهب ومن يودّع ومن ينتظر دوره للرحيل.
في بلد يقوم على الهجرة ويصدّر اليد العاملة منذ تشكّله وتشكّل اقتصاده، قد لا يكون هذا تطوراً جديداً. فقد اعتدنا منذ القرن التاسع عشر على موجات من الهجرة المتتالية، إمّا بحثًا عن فرص اقتصادية أو هربًا من الحروب أو استكمالًا لدورة الحياة. بلد يصنع المهاجرين ويكره الوافدين إليه، فيمجّد «اللبناني» المهاجر ويستقبل بعنصرية «الأجنبي» الوافد. بلد يقوم على حركة الذهاب والإياب ولكنّه لا يعترف بها، فيبقى متمسكًا بهوية مغلقة، تلاحق أصحابها كلعنة، حتى في منفاهم.
ما من تطوّر جديد، ولكن لموسم الهجرة الجديد طعمه الخاص.
فهي هجرة مهزومي الثورة.
هجرة أفراد أحسّوا بطعم الانتماء لبضعة أشهر، بعد حالة من الانقطاع دامت لبعضهم طول حياتهم. هجرة من أحبّ فجأة، قبل أن يخسر حبيبه ليعود وحيدًا في ساحة باتت مجرّد ذكرى أليمة للحظة انتماء لم تدُم. فلمن كان يهاجر قبل ثورة تشرين، كان الرحيل «طبيعيًا»، جزءاً من دائرة الحياة بين الـ«هُنا» والـ«هناك». أمّا الآن، فبات له طعم الانقطاع والانسلاخ، وطعم الحب المنتهي.
وهي أيضًا هجرة الناجين من انفجار 4 آب.
هي هجرة أقرب لفرار، لرحيل سريع ومستعجل بعد انفجار المرفأ وتدمير المدينة. هجرة أناس يسمعون دويّ الانفجار حتى في منفاهم البعيد، فيتذكرون يوميًا لماذا فرّوا ولماذا لن يعودوا إلى هذه الأرض المنكوبة. هجرة بطعم الخوف، مدفوعة بأطنان النترات المتفجرة.
لكنّها أيضًا هجرة المنهارين اقتصاديًا.
هي هجرة من يدرك أن لا مستقبل هنا. هجرة من الآتي الأسود، من حتمية تكرار مآسي الماضي، من الانهيار الاقتصادي الذي عشناه من قبل. هي هجرة على «قوارب الموت»، بحثًا عن أي وظيفة، عن أي عملة مستقرّة، شوقًا لشراء كيس سكر من دون التشاجر حوله. هجرة بطعم الذنب تجاه من بقي هنا، ذنب قد تخفّف بعض وطأته الأموال المرسلة إلى العالقين هنا.
حبّ وخوف وذنب، ولكن أيضًا غيرة، غيرة مَن بقي تجاه من رحل. فننسى غالبًا أن الهجرة ليست محصورة بتجارب مَن رحل، بل تشكّل أيضًا خيال مَن بقي، مع سؤاله «عم تفكّر تفل؟». فهذا الرحيل الجماعي بات من ميزات الـ«هنا»، هذا المكان المكوّن من غيابات وفراغات وفقدان. والشكّ أيضًا، هذا التشكيك الدائم بصوابية قرار البقاء، إن كان قرارًا، ومعه الاستياء والامتعاض ممّن رحل وبدأ حياة جديدة، استياء نستحي به، لكنّنا لا نستطيع مقاومته. فصراع الداخل والخارج حتميّ أيضًا، وجدلية الـ«هنا» والـ«هناك» ليست محصورة بالمهاجر المخلوع.
ففي فكان ما، كلّنا مهاجرون، حتى الذين ما زالوا هنا. فهم أيضًا باتوا دخلاء على هذه البلاد، بعدما تمّ طردهم من الساحات لكي يعودوا إلى دوائرهم الضيقة، بقع صغيرة وهجينة من الـ«هناك» المتخيّل في «هنا» واسعة من الدمار. ربّما لم نهاجر جميعًا ولكنّنا بتنا مسلوخين بين مكانين وزمانين.
لكنّنا لسنا في اللامكان نفسه. فـ«هناك» يوجد حليب، أما «هنا»، فالحليب المجفّف للأقوى. ربّما كان على آخر مَن يرحل منّا، أن يطفئ الضوء من ورائه، حتى لا يرى مَن بقي هنا.
يحاول المشاركون/ات في هذا الملف التقاط جوانب مختلفة من هذه الهجرة الجديدة، من خلال تجاربهم/ن الشخصية مع الرحيل أو إعادة اكتشاف المسافة التي تفصلهم/ن عن هذا الـ«هنا» المنهار. تأخذ جدلية الـ«هنا» والـ«هناك» أشكالًا مختلفة في نصوص الملف، لتحاول رسم عالم حسّي ومفهومي، بات يشكّل اليوم مدخلًا لفهم واقعنا، واقع من رحل من «هنا» ومن لم يلتحق بالـ«هناك». رسم هذا العالم، ولكن أيضًا تقديم طرق مختلفة للتأقلم معه أو العيش فيه، ربّما بطريقة أقلّ قسوة أو أكثر نعومة. فالهجرة الجديدة لم تعد تبحث عن عودة ما، فعلية أو خيالية، قد تنهيها أو تشكّل خلاصها. إنّها حالتنا اليوم، حالة مهاجرين دائمين، عالقين بين الـ«هنا» والـ«هناك»، في بحثٍ دائم عن مأوى لن نعود إليه بل قد نخترعه.